«علقوا المشانق»..!

«علقوا المشانق»..!

«إن الشعور الوحيد الذي يمكن أن يتملك عقل أحدنا حول أي حدث لم يشهده بعينه، هو الشعور النابع من تصوره الشخصي عن الحدث ذاته، لذا، ليس من الغريب أن نقول بأن البشر يستجيبون لصور الخيال بقوة وفعالية كما تفعل الحقيقة والواقع، إن تمت تهيئة الظروف الملائمة لذلك» هي كلمات للكاتب الأمريكي «والتر ليبمان» ذكرها في كتابه الشهير «الرأي العام»

تعود هذه الآراء إلى أكثر من قرن من الزمن، لكنها تبدو اليوم حية وحاضرة، لقد عملت الكثير من المؤسسات الإعلامية على الاستماع إلى نصائح «والتر» كأداة للتلاعب بأهواء الجمهور، ولتصبح الوسيلة الأنجع لتمرير السياسات التي قد تلاقي نفوراً اجتماعياً، أصبحت الشاشات تستعبد الآراء وتحيد بالمشاهدين عن الحقائق إلى خلاصات مركبة ترضي الجميع، ربما قد عهدناها على شاشاتنا في السنين الأخيرة، لكن قصتنا اليوم تأتي من قلب الأراضي الأمريكية كما لم نعهد مثل ذلك النوع من القصص..

عام واحد مر على الحادثة، ففي ولاية بوسطن الأمريكية، دوى انفجاران مرعبان في الماراثون السنوي هناك، كانت هذه من أقسى التفجيرات التي شهدها الأمريكيون منذ أحداث الحادي عشر من أيلول، دخان وصراخ في كل مكان بعد أن تشظّت قنبلتان في تجمع للمتفرجين أمام إحد الشوارع، وعلى الفور أصبحت التفجيرات حديث الساعة في كل مكان، بدأت أرقام الضحايا بالتخبط ووقع المشاهدون ضحية فوضى إعلامية مؤقتة، لكن الأمور سرعان ما عادت إلى الانتظام بعد نشر الصور الأولى للحادث، مجموعة محددة من الصور، ظلت تدور على جميع المنابر الإعلامية إلى أن تشربها الجمهور المصعوق بكل تفاصيلها، اكتفت جميع تلك التلفزيونات بما قدمه أحد المصورين الهواة ويدعى «بينجامين ثورنديك» من بعض اللقطات، صور مهزوزة محدودة النطاق أصبحت المرجع الوحيد للحادث، أفضت جميع نتائج البحث الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية إليها، وفردت الساعات الطوال للحديث عن جميع أجزائها، عن طريق محللين وخبراء، وعلى الرغم من ظهور مجموعات أخرى من الصور كان قد التقطها بعض الشهود، إلا أن الاكتفاء بهذه المجموعة دون سواها رفع الكثير من علامات الاستفهام، لم هي دون سواها؟

فخ الصورة..

كانت صور الشاب «آرون تانغ» أحد الأمثلة عن البدائل المهمشة، لقد وضحت تلك الصورة تفاصيل الحادث من عدة زوايا وبدقة ممتازة، لكنها لقيت الإهمال المتعمد، ولم تجد طريقها إلى النور إلا بعد أشهر، لم يكن حجم الحادث بالكبير حسب صور «آرون»، رعب على الوجوه، بعض الثياب الممزقة، دخان واختناقات، لا أكثر، أما صور «بينجامين»، فقد كانت أشد وقعاً، شظايا في المكان، أناس ملقاة على الأرض، والأهم من كل هذا، كانت الصور الأداة الأمثل لتعليق مشانق الجناة، لقد ظهر كل من الأخوين «تزوخار تسارنايف» و «تاميرلان تسارنايف» في تلك الصور، شابان مسلمان من التشيك، لقد وقعوا في فخ الصورة، وأصبح من الممكن توجيه أصابع الاتهام على الفور إليهما، وهذا ما حدث، حكم على الاثنين بالقتل في محكمة الرأي العام، وأصبحت صورهما تقفز من شاشة لشاشة ليدل عليها الأمريكيون الغاضبون، بدأت «استطلاعات الرأي» بإحماء الأجواء، قبل أن تتوضح حتى جميع ملامح الحادثة.

عادت شعارات «الحرب على الإرهاب» إلى الواجهة، وهاهم الجناة على التلفاز، تبدو ملامحهم الشرقية القاسية الدليل الوحيد على فعلتهم، وبانعدام أي مجموعة أخرى من الصور أصبح الأخوة «تسارنيف» هدف جميع وكالات الأمن والشرطة في ذلك اليوم، تتابعت الأخبار عنهم بسرعة مريبة، لقد اشتبك الأخوان مع الشرطة، ففقد أحدهما حياته بعد أن خطف حياة أحد أفراد قوى حفظ النظام، ولم تمض أيام قليلة حتى أفضى البحث عن الأخ الآخر إلى اعتقاله وتسليمه للسلطات، لقد تمت العملية كلها في ظرف أربعة أيام، وتم تسجيل اعترافات الجاني على الفور وإدانته بدزينة من التهم، جرى كل شيء بسرعة وسرية، لم تختف صور الأخوين على الشاشات حتى بعد الحصول على الإدانات، «لقد علمنا لاحقاً بأن الأخوين قاما بحضور بعض المحاضرات لدعاة دينيين متشددين، إنها السبب وراء تصرفهما العدائي المتطرف»، وهنا اكتملت الصورة، ونال الجمهور الخاتمة البسيطة المتوقعة، متطرفون إسلاميون قتلوا أمريكيين بدم بارد، لا ضير من إنعاش هذه الصورة النمطية الساذجة بعد مرور أكثر من عقد على أحداث الحادي عشر من أيلول.

«الرأي العام».. وزيف المأساة 

على الرغم من جرح أكثر من 260 شخص في الانفجار، تبين جميع مجموعات الصور الملتقطة عن هذه الحادثة زيف هذا الرقم، لقد كان الانفجار محدوداً للغاية، تكفي نظرة فاحصة لتفاصيل ما التقطه الهواة والمحترفون عن ذلك اليوم لتبيان ذلك، لكن الإعلام استمر باستعراض صور «المأساة» لشهور لاحقة، وبالتحديد مجموعة «بينجامين» دون سواها، تلك المجموعة التي زرعت في عقل المشاهد الحقيقة التي تريد، ثم عمل تكرارها على ترسيخ تلك المعطيات لتصبح غير قابلة للشك، لقد علقت مشانق الشابين من اللحظة الأولى التي ظهرت فيها تلك الصور على الشاشات، إنه التحكم عن طريق طريقة العرض، الإيمان الأعمى لوجهة نظر كبرت وتضخمت لتصبح هي الحقيقة، «الرأي العام»، الاتجاه الذي ستسلكه الجموع المغيبة عند الضرورة دون أي إحساس بالوعي أو المسؤولية.