(الوطن.. أكثر من ذلك)
بالرغم من أن الشعور الغامض المبهم بالانتماء كثيراً ما يكون مسيطراً جارفاً بحيث لا يمكن تجاهله، مؤثراً في تفاصيل الحياة وقراراتها كل يومٍ وفي كل لحظة، إلا أن قلة فقط يدّعون فهمه وتحديد ماهيته، إلى ماذا ننتمي حقاً؟ ما هي الأوطان؟ وما هي تلك الهوية المتفردة التي تجعلنا «نحن» وتعلن سطوتنا على الجبال والكلمات والبطولات وكتب التاريخ.
كثيراً ما وجد العديدون أنفسهم في مأزق إذا ما فاجأهم أحد المتحاذقين بسؤالٍ عن ماهية الوطن، كانوا يلوذون بأكثر التعاريف والمحددات اقتضاباً في المناهج المدرسية، يعددون كطالبٍ حفظ درسه أن الوطن هو لغةٌ وتراثٌ وحدود جغرافيا وتاريخٌ مشترك. إلا أن الوطن ولسببٍ ما، بدا دائماً أكثر من ذلك، ولم يكن قط تجميعاً شكلياً لتلك العناصر والمحددات.
يُصرّ الوطن على أن يبقى غامضاً مبهماً لأصحابه حتى يبتعدوا عنه، حينها يصبح فكرةً واضحةً قطعية، تكاد تُلمس باليد بالرغم من بعد المسافات، فالوطن يعرّف عندها كل ذلك الذي فقدوه..
تلك مفارقة غريبة، إذ يبدو الأمر كما لو أن الوطن أحجية؛ لا تستطيع أن تعرف تماماً ما هو، إلا أنك تستطيع أن تعدد أضداده، ما ليس له، وما لم يكن يوماً من صلبه. هي مفارقةٌ كثّفها غسان كنفاني في روايته «عائد إلى حيفا» بعبارة غدت إحدى أكثر محاولات تعريف الوطن شهرةً: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث ذلك كله» يقول «سعيد. س» بطل الرواية لزوجته.
هو إذاً تعريفٌ للأمر بنقيضه؛ يظل الوطن غامضاً حتى يغدو مهدداً وحينها تتضح حدوده وما يجب الدفاع عنه. تلك مفارقةٌ ساخرة أخرى، إذ لم يبد أن أعداءٌ الأوطان عانوا يوماً من صعوبةٍ في تفهم ماهيته، لم يعجزوا عن تحديد المواضع التي يجب استهدافها، والثروات التي ينبغي نهبها أو التراث الذي يجب طمسه وتشويهه وإخفاؤه.
ولهذا مثلاً كان لأحداثٍ تاريخية محددة دورٌ جوهريٌ في بلورة الهوية الوطنية السورية: من ميسلون إلى الثورة السورية الكبرى ثم الاستقلال والحروب ضد إسرائيل، كانت تلك نقاط مفصلية لأنها وضعت البلاد بكليتها ككيان أمام خطر يستهدف جوهر وجودها.
العدو بدوره لا يكون دائماً واضحاً ومكشوفاً، بل مركباً تمتد أيديه كأخطبوط من الخارج والداخل، يكون تارةً محتلاً للأرض، أو فاسداً ينهب ثروات البلاد ويجوّع أبناءها، يكون أحياناً أخرى يداً تضيّق الخناق على أنفاس الناس وتسلبهم كرامتهم. ويكون مراتٍ كثيرة غزواً ثقافياً للأفكار والأحلام واستبدالاً للثقافات الوطنية الأصلية بأخرى مشوهة مسبقة الصنع.
لكن حتى محاولة تعريف الشيء بنقيضه تحمل في طياتها قدراً من المخاطرة، وقد تكون في أحيانٍ كثيرة أداة قد تدفع أبناء الشعب لإشهار سيوفهم في وجه أعداءٍ وهميين ثانويين، جاعلين عجلة التاريخ تدور من جديد بحروبٍ أهليةٍ أو طائفية أو عرقية تشن باسم الوطن وتختزله في انتماءات ضيقة.
ماذا كان الوطن بعد ذلك كله؟ ربما سيستغني الكثيرون حتى عن محاولات الفهم والتجريد، ويكتفون به شعوراً غامضاً يحركهم ويلفهم بالدفء، وصراعاً يتجدد كل يوم، وبلاداً تتسع لهم. وربما سيترك الكثيرون خلفهم محددات كتب المدرسة وتعريفاتها ليتحدوا مع شعوبٍ أخرى وبلدانٍ لم يطؤوا أرضها ضد من كانوا دائماً وفي كل زمانٍ ومكان أعداءً وأضداداً للأوطان.