النكبــة لم تكتمل بعد!!
محمد خالد محمد خالد

النكبــة لم تكتمل بعد!!

للنكبة مفهومها الأوسع. هي أن تصوّرنا مجرد «فعل فيزيائي»، قوامه الاقتلاع والإحلال، فإن الجانب غير المرئيّ منها يتجلى في العدوان على الذاكرة. ذلك الأخير هو الشق المعنوي من النكبة. لذا فإن «مشروع النكبة» في نطاقه الأوسع لم يكتمل بعد. وربما لن يكتمل إلا لو تخلى الفلسطيني عن ذاكرته.

بهذا تتضح المعادلة: إذا كانت النكبة هي اقتلاع الإنسان من وطنه، فإن العدوان على الذاكرة يرمي إلى اقتلاع الوطن من الإنسان. يكون مفهوما بالتالي لماذا كان الاستهداف المباشر للذاكرة التاريخية الفلسطينية، ولماذا محاولات انتزاع فلسطين وهويتها من الوعي الجمعي للأجيال التالية من شعبها، بل ولماذا السعي لتغييب فلسطين عن الوعي الإنساني. ليس خافيا أن مشروع الاحتلال راهن مبكرا على اهتراء الذاكرة الفلسطينية وتلاشيها، بمفعول الاقتلاع والتهجير والانقطاع بين الأجيال. كانت المراهنة أن جيل النكبة «سيموت»، وأن الجيل الثاني «سينسى». بدا واضحا أن جيل النكبة لم يطمس الذاكرة، بل أحاطها بوعيه وتشبت بها، فكانت رمزية المفتاح والخيمة والتغني بيافا وعكا وبيسان شاهدا على ذلك.

لقد جاءت الاستجابة الفلسطينية التلقائية، بالتشبت بالهوية والخصوصية، التي تصلبت واكتشفت ذاتها أكثر من أي وقت مضى، فغدا صقل الهوية الفلسطينية بحد ذاته مشروعا موجها ضد الإلغاء والطمس. تحقق بالفعل نوع من اتصال الذاكرة وتمريرها إلى الجيل الثاني بعد النكبة، الذي أكد إرادة العودة ورفض المساومات عليها. أما الجيل الثالث، فقد اتجه إلى مأسسة مشروع الذاكرة والهوية، وعبر بها إلى القرن الحادي والعشرين.

ينبغي أن نقرر أن الذاكرة ليست الماضي، بل هي الوعي بالتاريخ والجذور والهوية، وإدراك الخصوصية، وهي أيضا الوعي بالذات، وعيا يتصل بالواقع وينفتح على المستقبل. يعني ذلك استلهام الذاكرة ليس اتجاها ماضوياً، بل هو استجابة واعية لتحدي المستقبل الفلسطيني، واستعداد رشيد لصدماته. هو تعبير عن إرادة البقاء، فسؤال الذاكرة «أن نكون أو لا نكون»، طالما أن الذاكرة هي حاضنة الشعب الذي تسلب أرضه.

وضمن معادلة الصراع الشاملة، لا يفوتنا ما تمثله الذاكرة من ثقل مهم في قضية فلسطين، أما استبعادها من الخطاب الفلسطيني في أي مرحلة، فلا يؤشر إلى إضعاف جوهري للموقف الفلسطيني العام وحسب، بل ومن شأنه أن يعود بعواقب وخيمة في حمى البحث عن «الحل النهائي». فبين أيدينا مثلاً رؤى تروج لقابلية الكيانية الفلسطينية لأن تختبئ وراء جدران الاحتلال في بؤر معزولة. هم يسمون ذلك «دولة»، ويضمنون لها رفرفة الأعلام، واشتراطهم أن تكون «قابلة للحياة» أما «اللاجئون» فأمرهم يتعلق بحل «متفق عليه».

علينا اليوم وفي هذا المنعطف الحرج أن ننجز مهمة الاستدراك والمراجعة، بأن نصلح من خطابنا الرسمي والشعبي، وان يتعافى خطابنا السياسي والثقافي، وننفض عنه غبار المراحل وكبواتها.

نعاود القول: لا يسمح للذاكرة الجمعية الفلسطينية أن تستمر في أعماق النسيان، أن لا تستجيب لمطالب الطمس والاقتناص والإلغاء. انه فعل الممانعة المبدئي الذي يقتضيه الموقف وتتطلبه حماية الذاكرة المستهدفة. ليس من المقبول أن يستدرج الإنسان الفلسطيني بعد كل هذه الأشواط الماراثونية لمطلب التجرد من الذاكرة، والتنصل من هويته والخروج من ذاته، بل وتقمص رواية أخرى.

لا ينبغي أن نطالب ذاكرة الجيل الجديد بأن تتوقف عند حدود الجدار العنصري، فالذاكرة الفلسطينية لا تتوقف عند إشارة حمراء، ولا ينبغي لها ذلك. وهذه الذاكرة غير معنية بالتكيف مع ما تراه «الرباعية» أو بمجاراة السلوك التصويتي في مجلس الأمن. ولمن لم يفهم بعد: من يحتمل أن يضع ذاكرته تحت رحمة أولئك الذين باعوا أمم العالم حكاية أسلحة الدمار الشامل؟؟