«في حضرة الغياب» والتمثيل بجثة درويش
أثار تجسيد الفنان فراس إبراهيم لشخصية الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الكثير من الجدل، ولعلّ الحملات التي أقيمت على صفحات الـ«فيس بوك» لمنع إبراهيم من تجسيد هذه الشخصية خير معبّر عن رفض غالبية الأوساط والشرائح الاجتماعية لهذه التجربة، بينما كان رد إبراهيم على هذه الحملات «إن تلك المجموعات ليست بريئة وإنما مدسوسة من أشخاص معينين»، لافتاً إلى أن المسألة شخصية إلى أبعد الحدود، ثم أكّد أنه ماض في مشروعه دون اهتمام بكل الأصوات المناهضة،
لا بل وتعامل معها بسخرية واستخفاف حيث قال: «في حال أراد أولئك الاعتصام أمام منزلي الخاص لإجباري على التنحي عن تجسيد دور درويش من الممكن أن أزودهم بعنواني».
وبالفعل باشر فراس إبراهيم بتجسيد دور محمود درويش، في عمل يحمل اسم «في حضرة الغياب» من إنتاجه الخاص، وأسند إخراجه لنجدة إسماعيل أنزور، ضارباً بعرض الحائط كل الطلبات التي وصلت لحد التوسل بأن لا يشوه هذه الشخصية، فقد استطاع أن يشتري من حر ماله رضا طاقم العمل ابتداءً من المخرج الذي تقاضى ثمانية ملايين ليرة سورية، وانتهاءً بأصغر ممثل.
بالطبع نحن لسنا ضد أية محاولة فنية ولسنا ضد التجريب، ولسنا أعداء النجاح كما كانت تذهب تصريحات فراس، لكن البروموشن الترويجي للمسلسل الذي ظهر على موقع «يوتيوب» كان خير دليل على ما راهنا عليه سلفاً، وهو الفشل الذريع والمهزلة الحقيقية، مع العلم أن البروموشن عادة يضم أفضل ما في العمل، لكي يُقدم للمحطات الفضائية للحصول على أفضل العروض كما هي العادة، فالسؤال: إذا كان هذا من أفضل ما في العمل فإن ما خفي سيكون أعظم بلا شك. فالمكياج، على سبيل المثال، ليس شنيعاً وحسب بل إنه مهين جداً، حتى كأنك تحضر حفلة تنكرية، أو ترى لوحة كاريكاتورية عن شخصية درويش بـ(الشعر المستعار، حمرة الخدود، الحركات، طريقة الإلقاء).
ليس لدى أحد مشكلة شخصية مع فراس إبراهيم، كما يزعم هو أو من حوله، الخلاف الأساسي حول العمل بل حول الاستخفاف بعقول المشاهدين، لا سيما وأن العمل عن درويش، ذلك الشاعر ذو الحضور الذي يتمتع بكاريزما خاصة، والأنيق للغاية، حيث يبدو في البروموشن آنف الذكر مرتدياً ملابس أكبر من مقاسه، ناهيك عن الصوت والحضور، فصاحب «كزهر اللوز أو أبعد» لم يكن يقرأ الشعر بهذا الذل يا فراس إبراهيم..!!
سؤال مهم للمخرج: هل حضرت ولو مرة قراءة شعرية لمحمود درويش، وإن كانت على الفيديو؟ لا أعتقد.. ربما لو فعلتَ لعرفت درويش، على الأقل من حيث ولكنت لاحظت أن الشاعر الكبير لا يوجد فرق بين أسنانه..!! ولمَ لم تستعن بخبراء تجميل أم أن التعليمات الإنتاجية فرضت أن تبقى الحال على ما رأيناها؟؟ وهل من الممكن أن تكون الدراما السورية والعربية فرغت من أي ممثل يقدّم هذه الشخصية غير فراس إبراهيم؟؟
هذا العمل لم يُسئ فقط لشخص محمود درويش بل أيضاً أضاع الفرصة على أي كاتب أو مخرج أن يصنع عملاً عن حياة الشاعر الكبير، بالإضافة إلى أن الجيل الآتي الذي لن يعرف عن درويش أكثر ممّا يتابع على شاشات التلفاز أو الانترنت، وصورة فراس هي كل ما سيكون في أذهانهم عن الشاعر العربي الأكبر.. لنتذكر مسلسل «نزار قباني» الذي رغم كل ما يمكن أن يقال عنه يبقى أن تيم الحسن أبلى في إنقاذ صورة الشاعر من كثير من التشوّه.
لنفكر قليلاً.. ماذا أراد مارسيل خليفة من المشاركة من هذه المهزلة؟؟ من المفروض أنه لا تنقصه لا الشهرة ولا المال، أم أنه لم يتابع أياً من أعمال فراس إبراهيم، ولم يدرك أن هذا الفنان هو آخر شخص يستحق أن يؤدي هذه الشخصية.
أحمد درويش الأخ الأكبر للشاعر الكبير قال إنه من المبكر إعداد وإنتاج مسلسل عن حياة شخص بقامة محمود درويش، مؤكداً أنّ ذلك يحتاج لجهد مركب ومعقّد يتعذر إنجازه بهذه السرعة، وقال إنه من الأفضل لو ترك المنتج فراس إبراهيم دور البطل لممثل آخر بدلاً من قيامه به.
ربما يقول البعض إن هذا العمل لن يزيد ولن ينقص من رصيد ومكانة محمود درويش، ولكن الدراما تدخل كل بيت ومن حق من سيرى محمود دوريش ويسمع شعره لأول مرة من خلال مسلسل رمضانــي أن يراه كما يجب وكما يستحق، وهذه مسؤولية أخلاقية ثقافية بالدرجة الأولى..
لا تمثلوا بجثته لأغراض لا أحد يعرفها.. البدايات التي ظهرت مسيئة جداً من وجهة نظرنا، ويبقى للمشاهد أن يتابع (إن استطاع) وأن يحكم بنفسه على مجزرة دراميّة تسيء لأكبر شخصية ثقافية عربية لمجرد أن شخصاً ما يملك المال وبإمكانه أن يفعل ما يريد..!!