الأسودان
زكريا محمد زكريا محمد

الأسودان

الأسودان: عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي. بطلا أهم ملحمتين شعبيتين عربيتين. دخلا وجدان الناس في الدائرة العربية الإسلامية منذ مئات السنين. فلماذا أعطي دور البطولة في هاتين الملحمتين لأسودين، في منطقة ليس موقفها من دكنة الجلد موقفا طيبا؟ وما الذي يعنيه ذلك؟ يمكن القول في الإجابة على هذا السؤال أن «السواد» في العربية صفة للشعب عموما. يقال: سواد الناس، أي عامتهم. وكان السومريون، حسب الخبراء، يصفون الشعب أيضا بأنه «ذوي الرؤوس السود». السّواد، إذاً، رمز للشعب المعتم الذي هو كتلة غير مميزة . 

السواد كذلك رمز للزراعة والخضرة. يقال: سواد العراق، أي ريف ما بين البصرة والكوفة، وما حولهما. ويوصف النبت الشديد الخضرة بالدهمة، أي بالسواد. يقال: جنة دهماء؟ أي خضراء خصبة مائلة إلى السواد بخضرتها. وفي القرآن (جنتان، مدهامّتان)، أي خضراوان مع ميل إلى السواد. إذاً فالدهمة مرتبطة بالخضرة والخصب. كذلك يطلق على جمهور الشعب اسم «الدهماء»، من الدهمة- السواد. ويقول أدونيس في قصيدة له: «ونادر الأسود كان الصدى/ وكانْ/ يُخيط جرح الماء». وإخاطة جرح الماء رمز للزراعة. فالنبت هو الذي يخيط جرح الماء على الأرض. وهكذا يلتقى السواد والزراعة والخصوبة في الشعر، أيضاً. وفي العربية كذلك فإن الأسودين هما التمر والماء. والنخل والماء هما أصل الزراعة في جزيرة العرب. إذن: فالسواد رمز للخصب في أعماق الناس. وسواد عنترة وأبي زيد ليس سواداً بالصدفة. إنه، في العمق، تعبير عن روح الخصب والتكاثر.

وفي عرف الكثيرين فأن دكنة الجلد تسير طرداً مع قوة الطاقة الجنسية. فالدكنة والسواد هما الليل. والليل هو زمن البذار الجنسي، كما أنه اللاوعي والمكبوت الجنسي. لذا فسواد أبطال الملاحم الشعبية ذو مغزى جنسي. وليلة التاسع والعشرين من الشهر هي الدهماء في العربية. والتاسعة والعشرون هي، أيضاً، ليلة ما بعد الحيض، ما بعد العادة الشهرية. لذا فهي بدء الخصوبة القادمة، حيث تستعد بويضة جديدة. لتفتح احتمال الخصب والحياة.

فوق هذا كله، فالنيل المصري يدعى في الأدب المصري القديم (الأسود).

وثمة بطل أسود، أو شبه أسود، آخر هو بطل الملحمة الشعبية المصرية (أدهم الشرقاوي). وهذا يعني أننا أمام أبطال سود ثلاثة لثلاث ملاحم شعبية لا اثنتين. بناء عليه، فالأسودان، عنترة وأبو زيد، صمدا كل هذا الزمن كبطلين في بيئة تفضل فقاعة اللون على دُكنته لأنهما يحملان طاقة رمزية عالية. وطاقتهما الرمزية هذه هي التي يجب البحث عنها وفهمها.