ماريو بارغاس يوسا.. روايات أم أسرار تحلق في التاريخ..؟؟
يقتحم الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا قلب الإرث الحضاري لأدب أمريكا الجنوبية، من زاوية خاصة، مغايرة تماماً لتلك التي يختارها كاتب التاريخ أو رجل السياسة، عند الكتابة عن تاريخ شعوب أمريكا الجنوبية، هذه الزاوية هي مفتاح مغامرته، بعد أن يمضي عميقاً مستعيناً بمخيلته التي منحته طاقة سردية غير عادية، امتلك من خلالها تقنيات تعيد تشكيل كل الحكايا.
ماريو بارغاس يوسا هو وحده الذي يعرف أن ما يكتب هو سر أبدي، وليس علينا فقط اكتشاف المغزى من وراء ما يسرد فقط، وإنما البحث في روح التاريخ التي أُطلقت مع مخيلة الروائي البيروفي إلى أعلى من سقف السماء.
عندما وقعت في يدي روايته «قصة مايتا»، ترجمة المبدع صالح علماني، شكلت نموذجاً عن الباحث عن الحقيقة، أو حتى ظلالها، بين ركام هائل من الأوجاع، والذاكرة المثقوبة. تتحدث روايته «قصة مايتا» عن انتفاضة مسلحة لمجموعة من الثوار اليساريين، جرت أحداثها حتى قبل الثورة في كوبا، فإن مايتا بطل الرواية ينتصر في النهاية، ويعيد صياغة نفسه، رغم كونه ثورياً لا يدع قطار الثورة يفوته، فيقتحم إحدى عرباته رغم كل شيء. إن العمل كتب بروح التحقيق الصحفي من ناحية، ومن ناحية أخرى يتشظى السرد عبر مستويات متعددة ومتداخلة، فتتداخل الحوارات ويخترق الماضي الحاضر، لكي ينجز مهمته وهي الأخبار عن حوادث حدثت وشخصيات عاشت وضجت، ولا ينسى الكاتب أن يذكرنا أكثر من مرة بالفرق بين الحقيقة الروائية والحقائق التاريخية، فيكشف لنا في النهاية أن الوقائع الحقيقية مختلفة تماما، وهو أشد فقرا بكثير من التخييل الروائي، وإن كان هذا في الأخير مجرد قناع يحتمي به لتصفية حسابات سياسية، لا يستطيع مقاومة إغرائها.
وبقي الكاتب مهتما بالبقاء قريبا من الراوي فتقمصه، ولكنه أيضا يريد أن يبقي متعاليا ومتحررا ومتجاوزا للراوي، فعمد إلى تقنيات سردية متداخلة قديمة وحديثة. لم يجعل الكاتب «مايتا» شيوعيا فحسب، وإنما تروتسكياً أيضا على الطرف القصي من اليسار ليسخر على هواه، ولم يكتف بقبحه وشعره الأشعث وأسنانه المتفرقة وأقدامه المسطحة ومشيته «كمن يسير على بيض» فحسب، ولكن جعله مخنثا «شاذا جنسياً».
«قصة مايتا» تتكون من عشرة فصول، ويقوم الكاتب في الفصول التسعة الأولى بسياحة عبر الأماكن والشخوص، الذين عرفوا مايتا قبل أن يذهب إلى «خاوخا»، وهي المدينة الصغيرة والتي سقطت بيد الثوار ليوم واحد، وهنا ينجح الكاتب بتصوير البيرو ببؤسها وشعبها الفقير، وجنرالاتها التافهين، وكذلك كافة أعراقها من بيض وزنوج وملونين وهنود، ولا ينسى جغرافيتها المعقدة وهو حين يصفها بالمزبلة، فإنما يعطي المبرر دون أن يعلم لمايتا ورفاقه بانتفاضتهم، رغم الاستهانة البادية على توصيفاته، ويدعي الراوي انه ومايتا كانا صديقين في الطفولة، ولكن في الفصل الأخير وهو الفصل المخصص للقاء الراوي ومايتا بعد أكثر من ربع قرن على الانتفاضة، لا يبدو أن أحدهما يعرف الآخر ونجد الكاتب هذه المرة ضائعا أمام الكم الهائل من التزوير، الذي تراكم في الفصول السابقة، أما مايتا فهو بصمته وسط الأعوام الطويلة وراء القضبان، يبدو مشعاً بوهج الثورة.
يقدّم يوسا في « قصة مايتا» حكاية اليسار في أمريكا الجنوبية، بنبرة لا تخلو من التهكم، نابشاً عن الأسباب التي أدت إلى فشله وتحطم آماله. وشخصية مايتا تجسيد فني بارع لنمط اليساري الطفولي، الذي لا يعيش إلا في حالة تمرد طائش، محاطاً بهالة من الأوهام الكبيرة، وبنزعة إنشقاق دائمة عن رفاقه
لم يتوقف يوسا على مساحة البيرو، ففي رواية ‘’حرب نهاية العالم’’ التي طبعت عام 1982، تخلى عن البيرو كفضاء روائي، وكتب عن أحداث واقعية جرت في البرازيل عند نهاية القرن التاسع عشر. وتصور في الرواية قيام ثورة تبشيرية، يقودها رجل دين في صحراء ‘’نورديستي’’، تدعو لنظام عادل فيسير معه كل المنبوذين والعاهرات والفقراء والخارجين عن القانون، ويسعون برفقته لإسقاط النظام الجمهوري وإنشاء نظام عادل لا يقوم على الاقتصاد.
وجاءت تجربته السياسية الفاشلة، بعد مشاركته في انتخابات الرئاسة سنة 1990، ليكتب يوسا رواية ‘’مديح زوجة الأب’’ عام 1988، فصنفها النقاد في خانة الرواية الإيروسية، وأصدر يوسا تتمة لهذه الرواية رواية بعنوان ‘’دفاتر دون رودريغو’’، وركز على تيمة الحبّ المحرم لشاب يدعى فوفونا وزوجة أبيه دونا لوكريثيا.
ولكن حنينه لموضوع الديكتاتورية جعله في عام 2000،ينشر رواية ‘’حفلة التيس’’، وهي رواية عن جنون ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، تروخيو الذي حكم مدة تفوق الثلاثين عاما، من 1930 إلى غاية 1961، بعد أن قضى يوسا سنوات طويلة في جمهورية الدومينيكان، قبل الشروع في كتابة هذه الرواية ذات الشعرية المتأنقة، والتي جاءت مليئة بالصور الفظيعة، ليلحق ‘’حفلة التيس’’، برواية تسبح في الجمال والرقة، وهي ‘’الفردوس على الناصية الأخرى’’، وهي رواية عن اليوتوبيا والجنس والفن، حيث يتناول بين فصولها حياة كل من الرسام الشهير بول غوغان الذي غادر باريس إلى تاهيتي سنة 1890، بحثا عن سعادة الحياة البدائية وإيقاعها الحسي، ليدرك في النهاية أنه أضاع عمره بحثا عن الفردوس، هذه الفكرة استثمرها يوسا بقوة في رواية لاحقة بعنوان ‘’شيطانات الطفلة الخبيثة’’، حيث نقف أمام قراءة متخيلة لمسار التاريخ من زاوية الحب وعلاقة الرجل بالمرأة. وتبدأ الرواية سنة 1950 وتنتهي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بطلها شاب يدعى ريكاردو سوموكوثيو، يرفض واقعه ويقاوم الاستسلام لفكرة العيش في مسقط رأسه البيرو، لينتقل مثل بول غوغان عبر عواصم العالم بحثا عن الحب والسعادة، وسط تحولات العالم الأكثـر عنفاً وراديكالية، ليطوف بنا يوسا حول أمريكا اللاتينية ويخلق من فضاء الفقر فيها، عوالم تعج بالسحر والجمال، ويشكل تجربة فريدة في كتابة الرواية في تلك القارة.