عابر البحر وعابر النهر
كان ذلك عام 1921. عندما وقف الشاعر (معروف الرصافي) أمام المندوب السامي البريطاني، والصهيوني المتحمس، هربرت صموئيل، في افتتاح الجامعة العبرية، ليهذي عن أننا أبناء عمومة مع الغزاة الصهاينة.
ذعر يومها وديع البستاني- اللبناني الماروني، الذي كان فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، بل والذي أسس شعر المقاومة الوطني في فلسطين- مما قاله الرصافي. فكتب قصيدة عظيمة قرّعه فيها تقريعا
عنيفاً، ولقنه درسا في الثقافة والسياسة والوطنية.
وما زال هذا الدرس صالحا لمن يريد أن يتعلم حتى الآن. إذ ما زلنا نسمع من يكرر بأننا أبناء عمومة مع الغزاة الصهاينة، ويدعو إلى الصلح معهم باعتبارهم أبناء عمومة.
أما مختصر الدرس فقد كان في هذا البيت:
أجل، عابر الأردن كان ابن عمنا
ولكننا نرتاب في عابر البحر
لا يوجد ما هو أكثر اختصارا، ولا ما هو أشد عمقا من هذا التفريق. إنه تفريق يختصر وعي أمة بغزاتها وبنفسها وتاريخها. فعابرو نهر الأردن القدماء من أتباع موسى بن عمران، سواء كان هذا العبور أسطورة أو حقيقية، وهو أسطورة في أغلب الظن، لا علاقة لهم بعابري البحر من الغزاة الصهاينة. ليس من رابط بين هؤلاء وأولئك، ولا يجوز خلطهما ببعضهما. فهؤلاء غزوة استعمارية إفرنجية لا غير، وأولئك قطعة من تاريخ هذه البلاد وهذه المنطقة.
أما العابرون الذين ارتاب وديع البستاني في عبورهم (نرتاب في عابر البحر)، فقد تحولوا إلى واقع يدعى إسرائيل، نشر الرعب والدمار في المنطقة بكاملها.
ثمة فرق بين عابر البحر وعابر النهر.
وكان ثمة فرق بين وعي البستاني ووعي الرصافي. وعي البستاني كان قمة وعي أمة. أما وعي الرصافي فقد كان كلاما مبتذلا لا عمق فيه ولا معرفة، ولا تقدير للأخطار.
كما أن ثمة فرقا الآن بين من يدعو للصلح مع (أبناء العم)، وبين من يسمي أبناء العم هؤلاء باسمهم الأصيل: الغزاة الفرنجة.
... ...
لترقد روحك بسلام يا وديع البستاني، فهناك من ما يزال على العهد، عهدك.