مسكون بالشعراء
وإذا كان أبو العلاء قد نفر من شعراء عصره ومثالهم، فإنه ما من شاعر عربي حاور في شعره التراث الشعري قبله كما فعل هو. شعره كله حوار مع تراث الشعراء السابقين. إنه رغم غربته عن شعراء عصره مسكون بالشعراء الآخرين.
وهو حين يحاور شعراء الماضي يعمد، في الغالب، إلى الشعراء الأقل شأناً أو إلى المجهولين لكي يحاورهم ويكشف أعماقهم وأساطير حياتهم. يعارضهم ويوسّع مدى أبياتهم ويعطيها مغازي لم يفكروا فيها، ربما. واللزوميات، بالذات، مليئة بهذا الحوار المباشر وغير المباشر. لذا لن تستطيع أن تفهم كثيراً من أبيات اللزوميات إذا لم تكن ملماً بتاريخ الشعر العربي. وخذ بعض الأمثلة على ذلك. فهناك بيت لقيس بن الخطيم، يقول فيه:
إذا جاء هذا الموت لم يلف حاجةً
بنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فيحاوره أبو العلاء قائلاً:
إن كان لم يتّرك قيس له وطراً
إلا قضاه فما قضيت من وطر
هنا يرفع أبو العلاء بيت قيس ليجعله تعبيراً شاملاً عن الامتلاء والرضا عن النفس، وتعبيراً عن الاكتفاء من الحياة عند قدوم الموت. ثم يعارضه بشعور آخر، شعوره هو، المعبّر عن الخواء والخسران وعدم الرضا. وهو بهذا ينقل الحوار مع ابن الخطيم إلى مستوى فلسفي، لم يفكر فيه الأخير أغلب الظن. ثم انظر إلى بيت شاعر آخر هو «الثقفي» الذي يقول فيه:
يا رب مثلك في النساء غريرة
بيضاء قد جهزتها بطلاقِ
إنه مرة أخرى ينتزع هذا البيت، ويصعد به إلى الأعلى:
لم ألف كالثقفي بل عرسي
هي السوداء ما جهزتها بطلاقِ
إنها القضية النقيض تماماً: الأبيض والأسود، الامتلاء والخواء، القوة والضعف يتواجهان مباشرة. أما عرس أبي العلاء التي لم يطلقها، فهي الدنيا. فهو يتمسك بها رغم كل مراراتها. وهكذا يحول أبو العلاء بيت الثقفي من بيت يتحدث عن علاقة بين رجل وامرأة على قضية فلسفية، هي قضية الإنسان في الكون، أو قضيته مع الموت.
هكذا يمضي أبو العلاء ليحاور الشعر والشعراء قبله مباشرة. أما حواره غير المباشر فيمكن أن نعثر على نماذج منه. مثلا، يقول طرفة في بيته المعروف في معلقته:
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
عليه، فإنك إن بغيت طرفه وجدته في أماكن الفخر، وإن التمسته اصطدته في أماكن اللهو. فهو بين الخمر والفخر. أما أبو العلاء فغير ذلك تماماً. إنه على النقيض من ذلك:
من رامني لم يجدني
إن المنازل غربة
هو ذا: «من رامه لم يجده» في مقابل «إن تبغني تلقني». ومن بغى أبا العلاء لم يلقه، ولم يجده. فالوجود أصلاً عدم ولا وجود. أما حوانيت الخمر فقد هجرها منذ زمن، رغم أنه يكاد يحن إليها:
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة
ثم خذ بيت طرفة الثاني المعروف:
ولست بحلاّل التّلاعِ مخافةً
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
أما أبو العلاء فلا يحل «التلاع» والروابي، بل يحل «الوهاد» الخفيضة، في معارضة لطرفة ومناقضته:
وليس بيتي على الروابي
وإنما آلف الوهودا
يترك لطرفة ولغيره أن يحل التلال والتلاع، أما هو فيتطامن في هذا الكون. يخفض رأسه ويُخفت لهجته. حوار أبي العلاء حوار معارض ونقيض، يصعد بالعادي إلى الفلسفي. حوار يتم بضربات واضحة دون زيادة ولا زخرف، تحول الواقعي المبتذل إلى فلسفي، والعادي إلى كوني. خذ مثلاً هذا البيت:
لُبت حول الماء من ظمأٍ
إن غربي ما له مـرسٌ
كان يمكن لهذا البيت أن يكون لشاعر آخر. لكنه سيكون حينها وصفاً لرجل عطش يلوب حول الماء ولا حبل لدلوه كي ينشل به الماء. أما هنا، فإنك تحسّ باللوعة الوجودية القاتلة، لوعة الظمأ الذي لا يروى للإنسان في هذا العالم.