قصص قصيرة جداً
مدينة
وأنا أمشي في أسواقها هذا الصّباح، أراها متعدّدة الاحتمالات. أرى رجالاً ونساءً من مختلف العصور، رجالاً من مختلف الأعمار ونساءً من أزمنةٍ شتّى. والنّساء يبدو عليهنّ الحذر من احتكاكات جسديّة يشجّع عليها الاكتظاظ. وفي المدينة ينتشر الجنود هنا وهناك.
أعود بعد المشي المعتاد، لأجلس في مقهى باب العامود، في فسحة المقهى المطلّة على السّوق. النّادل منهمكٌ في خدمة الزّبائن. هل هو النّادل نفسه أم شبيهه؟ (حكاية الشّبيه منتشرةٌ في شرق المدينة وفي غربها هذه الأيّام).
أجلس وأتأمّل حجارة السّور، يعروها اصفرارٌ ما. أراقب شبابيك البيوت الّتي تمتدّ أمام ناظريّ، شبابيك بعضها مغلقٌ وبعضها مفتوح، وهي تخفي وراءها أسرارًا وحكايات. أشرب شايًا، وأنظر نحو امرأةٍ أجنبيّةٍ نحيلةٍ شقراء، تشرب قهوتها على مهل، تقلّب صفحات كتابٍ بين يديها، وتقرأ فيه باهتمام.
أنشر أوراقي أمامي. تنصرف المرأة (لعلّها قادمةٌ من زمن آخر). أبقى في المقهى حتّى المساء، وشبابيك البيوت على حالها لا تبوح بأيّ كلام.
مساءٌ آخر
مساءٌ آخر يأتي، والمدينة تنتبه في اللّحظة الأخيرة إلى موعد الإغلاق. بائع الأسماك، يخبّئ في ثلاّجة لها بابٌ سميك، ما تبقّى لديه من صيد البحر الّذي لم تصده يداه (من بحر يافا تأتيه الأسماك). يشطف بلاط الحانوت بالماء والصّابون. والماء الّذي يحمل معه أخلاطًا وروائح، يسيل في مجرًى خاصّ.
والمدينة تخلو مع مرور الوقت من النّاس. تجّارها يغلقون أبواب حوانيتهم ويهرعون إلى بيوتهم، ولا يتلفّتون إلى الوراء، كيلا تصدمهم مفاجأةٌ ما.
والمدينة، من باب العامود حتّى باب الأسباط، ومن باب السّاهرة حتى الباب الجديد، تنام ليلها المحفوف بالأسى، وفي أسواقها المسقوفة وغير المسقوفة ليس هناك إلّا هواء مشرد، وصدى خطوات الجنود.
اغتسال
مطر خفيف على القدس. يغسل أزقّتها وأسواقها وأسطحة البيوت. يشطف حجارتها القديمة ورخامها الأليف، يعابث حبال الغسيل، ويلامس زجاج النوافذ.
سوزان تقف عند نافذة غرفتها، ترى المدينة وهي تغتسل دون ارتباك، تتذكّر مطراً آخر في مدينة أخرى، وتجيش نفسها بمشاعر غامضة. تخامرها رغبة في الاغتسال، تمضي إلى الحمّام المشترك بينها وبين الجيران. هناك، تقضي نصف ساعة وهي مع الماء في حالة اشتباك.
أديب من فلسطين- القدس