بين قوسين: طائرة أحمد شوقي!
أولى المخاطر التي تهدد وحدة الثقافة العربية، هي التمسّك بحدود سايكس بيكو، فوفقاً لهذه الاتفاقية الاستعمارية بامتياز، تمزّقت الخريطة العربية إلى أشلاء، ليس على المستوى الجغرافي وحسب، بل على الصعيد الثقافي، وفي مقدمته المناهج المدرسية، فإذا لم توحّد هذه المناهج، وفق رؤية علمية منفتحة، لن تنهض ثقافة عربية شاملة، فما هو محرّم هنا، نجده محلّلاً في منهاج آخر، حتى بما يخص
المواد العلمية مثل الفيزياء والرياضيات، وما يبدو انتصاراً في بلدٍ عربيٍ ما، في أحد دروس مادة التاريخ ، يتحوّل إلى هزيمة، في خريطةٍ أخرى، فالتاريخ العربي لم يُكتب بنزاهة وحصافة علمية إلى اليوم، ولعل أبرز التحديات التي تواجهها الثقافة العربية هي كتابة التاريخ مجدداً، بعيداً عن الأهواء والتزييف والتزوير، وإذا كانت الحوادث القديمة محل جدل وسجال، في صحة هذه الواقعة أم تلك، فإن التاريخ المعاصر يُزوّر في وضح النهار، فما بالك بما جرى من حوادث قبل قرون؟
المناهج المدرسية أولاً، فهي تحتاج إلى نفض غبار، بما علق فيها من أوهام وتبسيط. في الواقع فإن كل ما يتعلق بدروس الرسم والموسيقى والتربية البدنية، تراجع إلى الوراء، وباتت مواد نافلة، لا تلقى عناية خاصة، مع العلم أن تربية الذائقة الفنية للطفل هي المدماك الأول في اكتشاف المعرفة، كما أن اتكاء دروس الأدب على نصوص قديمة، وحرمان الحداثة من اختراق أسوار المدارس والجامعات، أدى إلى عزل الأدب الحديث عن الذائقة العربية، وربما كانت قصيدة أحمد شوقي عن الطائرة، التي لا تزال مدرجة في بعض المناهج المدرسية، تبدو مضحكة اليوم، لجيل وجد نفسه في قلب ثورة المعلومات والميديا الجديدة. هكذا باتت مجامع اللغة العربية مكاناً لتحنيط اللغة بدلاً من إحيائها، ووضعها في مشتل الحياة المعاصرة كي تتنفس هواء اللحظة الراهنة، ومهما أصرّ هؤلاء على تسمية الكمبيوتر بالحاسوب، والتلفزيون بالرائي، لن يلتفت إليهم أحد، فالحفاظ على اللغة العربية، لا يتم عن طريق عزلها عن اللغات الأخرى، بل عبر تمازجها بمفردات العصر، فاللغة الانجليزية مثلاً، لم تتلكأ أمام مفردات وافدة من لغات أخرى بينها العربية، فمفردة"انتفاضة" دخلت القاموس العالمي، دون أن تستصرخ الجهات اللغوية هناك، فزعاً، كما يحدث لدينا. لنقل إذاً إن الهوية المهتزّة هي من يخشى الآخر، وذلك بانغلاقها على ذاتها تحت شعارات قومية فضفاضة، تزيدها عزلةً وانكفاءً، بدلاً من انفتاحها على رحابة المعرفة الكونية. هكذا باتت العولمة وحشاً ضارياً لدى بعضهم، دون فحص دقيق لمزايا ومقترحات التقنية الحديثة، هذه التقنية التي نتعامل معها يومياً في كل حقول الحياة، ولكن، حين يتعلق الأمر بالثقافة، نستنجد بالهوية. لنعترف صراحة، بغياب الخطاب العربي الذي يقارع خطاب الآخر، أو الذي يرفد هذا الخطاب، فنحن اليوم مجتمع يستهلك ثقافة، ولا يصنعها، إذا لم نقل، بأن المجتمع العربي انكفأ إلى قيّم قبلية، ترفع السيوف والخناجر من أجل لعبة كرة قدم، فما بالك بقضايا إستراتيجية؟