في العمق من اهتمامات الإنسان
تقدم بعض الكتابات التي تعنى بقضايا المثقفين العرب إدانة للمثقفين أنفسهم على مواقفهم المتعالية من شعوبهم حيث ينظرون إليها على أنها عامة ودهماء وجهّال، وتعتبر تلك الكتابات أن تلك النظرة علاوة على ما فيها من احتقار للإنسان وإنسانيته، قد أدت إلى جعل الخطاب الثقافي العربي خطاباً تجهيلياً لا يهدف إلى إحداث وعي ولا إلى تغيير وضع اجتماعي وفكري ما، بل إن غايته هي أن يبقى المثقف مثقفاً في عليائه، والدهماء دهماء في قاعها .
للتدليل على وجهة النظر هذه يقدم أصحاب هذا الرأي مقارنة ببعض المثقفين الغربيين الذين حملوا همّ مجتمعاتهم وعاشوا بعمق ذلك الهم في دمائهم، فأصبحوا لا يرون في اختراعات القرن العشرين وكل ما أحدثه من تكنولوجيا من أهمية سوى ما يعود منها على الإنسان بنتيجة مباشرة، وهي أمثلة جديرة بالتوقف عندها، لا مراء في ذلك، لأن همّ أي مثقف ينبغي أن يكون بالدرجة الأولى هو الإنسان، وهو ما يحقق فائدة للإنسان .
هناك ملاحظتان يمكن إبداؤهما على هذا الرأي، إحداهما أنه ينبغي أن نقيم فصلاً بين ممارسة المثقف في حياته الخاصة وبين ما يكتبه، صحيح أن قمة الأخلاق والصدق مع الذات ومع الآخرين هي أن تطابق الأفعال الأقوال، لكنه ما لم يحدث ذلك فإن ما يهم الناس هو خطاب المثقف الذي يبثه إليهم عبر كتاباته أو عبر أية وسيلة إيصال أخرى، فهذا هو الذي يؤثر فيهم وهو الذي ينتظر منه أن يعزز وعيهم ويعمق إحساسهم بإنسانيتهم، وثانيتهما أن هذا الرأي عمّم على كافة المثقفين العرب فسلبهم كل قيمة إنسانية وجعل خطابهم نوعا آخر من قمع الشعوب التي لا تحتاج إلى مزيد قمع، ويكفيها ما هي فيه، والواقع أن قطاعات كثيرة من المثقفين لا تعيش هذا الاستعلاء وقد نذرت نفسها لشعوبها وانغرست في تربة تلك الشعوب، وربما يكون الشعراء والكتاب أكثر من يمثل تلك القطاعات، وأقرب مثال على هؤلاء هو الكاتب الروائي خيري شلبي الذي رحل عنا في الأمس القريب، فهو أصدق من يمثل هذا النوع فقد عاش بقصصه الكثيرة مثل «السنيورة»، و«الأوباش»، و«الشطار»، و«الوتد»، و«فرعان من الصبار»، و«موال البيات والنوم»، و«ثلاثية الأمالي»، و«وكالة عطية»، في العمق من اهتمامات الإنسان، وذهب بعيداً في أغوار المجتمع ليستجلي نماذجه بتنوعها وتنوع حيواتها ومعاناتها، وليؤكد على الجوانب الإنسانية فيها، فرداً وجماعات، وفي رواية «الجوع» يرتفع الكاتب محمد البساطي بشكل باهر بنموذج تلك الأسرة الجائعة التي يتضور أفرادها جوعاً، ولا يجدون خبزة يأكلونها ومع ذلك يحس القارئ بسمو إنساني فريد لدى أولئك الأفراد فهم لا يتسخطون ولا يحقدون على الآخرين أو يحسدونهم، بل تسير بهم الحياة هادئة بسيطة، وقد طووا بطونهم على ألم مكبوت .
مثل تلك النماذج من المثقفين لا يمكن اعتبارها متعالية على المجتمع مجهّلة له، فهي تعمل في الصميم على تأصيل إدراكه بوجوده وقيمته الإنسانية .