مطبات: الظلال

مطبات: الظلال

ليست هذه صورته، وليس هذا لباسه، أما نظارته السوداء فلا توحي بأنه هو، الرجل الذي كنت أعتقد أنه يمثلني، كما أن مشيته الناعمة توحي بتنعم موروث، أو على الأقل متأصل فيه حتى النخاع، يفتح المرافق الباب بيد مرتعشة، وابتسامة أصبحت من علامات الوجه.

في مكتب أحد القيادات النقابية الوثيرة يجلس صاحبنا، وضحكته العالية تسد الممرات والغرف في الطابق الذي يشغل نصفه، يدان بيضاوان حد انفجار العروق الواضحة بزرقة جميلة، وشعر ناعم نظيف ينام بغنج على اليد التي تمسك القلم الفاخر.. ثم يعلو صوته المنتقد أن الحكومة لا تستجيب لمطالب النقابات، وأن المجالس العمالية هي صوت العمال العالي، وأنها تحاسب الحكومة على (الشاردة 

والواردة)، وأنه في هذا المجلس سيوضح كيف تهمش الوزارات والمؤسسات العاملين، وكيف يمارس القطاع الخاص إذلال العامل، وأن معظم المعامل مغلقة على عامليها، وأننا كنقابيين يجب أن ندافع عمن نمثلهم، وأن صوتنا هو صوت مئات الألوف من العمال الذين يجب أن ينصفوا، وكيف أن مفتشي التأمينات الاجتماعية يتواطؤون مع أصحاب العمل.. البطالة، الفقر، الغلاء، كل هذا الموشح الذي لا ينتهي من النقد لأداء المؤسسات والوزارات، وكل هذا الألم يخرج من بين الأسنان اللامعة، والشفاه المتوردة.

الصورة التي شاهدها ليست تلك التي يعرّفها إميل زولا في جرمينال، وليست تشبه الرجل الذي يضع واقية بلاستيكية على الرأس في ظل مشروع عملاق، ولا المهندس الأشعث والمتصبغ بالسواد من لفح الشمس.. كما أنها ليست صورة العارف بأنواع مستحضرات تبييض البشرة، وإخفاء التجاعيد، ولا صورة المتكرش من كثرة الولائم التي تعقب المؤتمرات، والموظف الملتزم بالدوام من الثامنة وحتى الثانية بعد الظهر.. النقابي وهنا ضاعت الصورة، ومن هول الصدمة يتلعثم عقله، يعرف أن أغلب العمال لا يعرفون أشكال الرجال الذين يمثلونهم، ويعتقدون أنهم مثلهم مغلوبون على أمرهم، ومن ذوي الدخل المحدود، وكان الله بعونهم.

في المجلس العام لاتحاد العمال تحدثت الحكومة بالأرقام عما أنجزته في خطتها السابقة، وعما ستنجزه في خطتها القادمة، وأنها في الخطة القادمة ستنفق /700/ مليار على التنمية البشرية منها (91) مليار على المدارس للقضاء على الدوام النصفي، وأن عدد السياح سيصل في العام 2015 إلى 14 مليون سائح، أي بزيادة 9 مليون سائح عما حققناه في نهاية الخطة الحالية، وأن مشكلة الفقر ناتجة عن الجفاف ومواسم القحط، وأن التضخم في انخفاض، وخلال السنوات القادمة الخمس من عمر الخطة القادمة سيصبح دخلنا كمواطنين يقارب دخول مواطني دول الجوار، والفريق الاقتصادي يخطط  لتحقيق نسبة نمو بنهاية الخطة يصل لـ13%.. أليست هذه الأرقام تؤكد أن الحكومة تسير بخطا واضحة وأهداف محددة.

في المقابل سيكون موقف النقابات بالتأكيد هو الإحباط من عدم استجابة الحكومة، وإصرارها على تجاهل طلبات من تمثلهم، ويستمر موسم العزف على أسطوانة مكررة وبالكلمات نفسها، وستنتظر دورة جديدة لمجلسها لتسأل الحكومة عن قانون العمل، وعقود الإذعان، والاستقالات المسبقة، وزيادة الأجور والرواتب... إلخ.

صورة النقابي التي تؤرق بال صاحبنا المصدوم، الصورة الملتبسة عن جسد مشدود ومنهك، وصوت جهوري عال، صورة النقابي بلباس العامل، أو الصورة المختلطة بنكهتهما، غشاوة الصدمة أخذته إلى أحاديث عمالية سمعها.. (لم يزر هذا المعمل قيادي نقابي، لا يعرفون حتى شكل الآلة وكيف تعمل، وحتى رائحة العرق، حتى أنهم لا يعرقون بسبب المكيفات، في البيت والسيارة والمكتب)، لم يكن حينها ليصدق هذه المبالغات، ولكنه الآن يعتقد أن تلك المزايا لا يمكن أن يتخلى عنها عاقل، وأن النضال النقابي من الممكن إنجازه من بعيد.

الصورة المعلقة في مخيلته سقطت عن جدارها..