الكوميدي والمأسوي في آن
نصر جميل شعث نصر جميل شعث

الكوميدي والمأسوي في آن

.. في الحديث الشريف يقول النبيّ محمد: «ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب». وفي عهد الملاحم الإغريقية هناك مصطلحان، في كتاب «فن الشعر» لأرسطو فهما بشكل خاطئ في شروح المقاصد كما قرأنا حول ذلك الالتباس، والمصطلحان هما: «التراجيديا» و»الكوميديا». فهناك من عرف التراجيديا بأنها المديح، وهناك من عرف الكوميديا بأنها الهجاء. المصطلحان فُهما فهماً صحيحاً بعد ذلك. فبرز مفهوم «التطهير» ليجوهر غايات العمل التراجيدي الفني، الشعر المسرحي تحديداً. التراجيديا تكون صفة لشخص أو لشعب عظيم غير عادي في آلامه وأحزانه في الحياة. 

والشعر أو الشعر المسرحي سوف يحاكي مثل تلك العظمة التراجيدية فنيا وبشكل مباشر على المسرح أم الجمهور؛ ليؤثر بهم ويطهّرهم بالبكاء واستخلاص العبر والوقوف على عظمة الأسى في واقع معاش. فالبكاء هنا يطهّر القلوب. وفي عبارة تنسب إلى الأميركي وليم كاوفمان نقرأ: «عندما تفصح المعاناة عن نفسها في شعر رائع يتملكنا إحساس بالتحرر، لأن حزننا الأخرس، والمبهم إلى أقصى الحدود، يجد تعبيره ويحلق بجناحين».

لكن «شر البلية ما يضحك»، وهذا المثل يقودنا إلى رأي، في الخصوص، لصاحب فلسفة الضحك الفيلسوف الفرنسي برغسون؛ أعيد إحضاره من مقالتي المعنونة: بـ»تفكيك الإسكافي والثقافي وضوء على حذاء الفلاحة لفان غوخ»، فيرى برجسون أنّ:» الكوميدي لا يقع على الفردي، بل على النمط الكلي. لذلك، فالمضحك خارج نطاق المجال الاستطيقي؛ لأن مجتمع العقول لا يبكي، وإنما يضحك. المضحك لا يتوّجه إلى القلب، وإنما يخاطب العقل. وهذا، كما يفسّره نقاد برجسون، أقرب إلى النقد الاجتماعي الذي يحكم العقل، ويجعله أداة لإصلاح التصلّب والجمود والانعزالية التي تصيبُ الإنسان. وهو ما يتماشى مع العبارة القائلة «إن العالم كوميديا لهؤلاء الذين يفكرون، وتراجيديا لهؤلاء الذين يحسّون». إلا أنّ هذا الفصل لا يصمد طويلا، بشكله الذهني التجريدي؛ لأننا تلقائيّا سنوصل المنفصلين لأجل تزويج أو توريط الوصف في تراكيب من قبيل: «الكوميديا السوداء» و «ضحك كالبكاء!».

وفي سياق هذا التزاوج بين التراجيديا والكوميديا، أو هذا التحول والانقلاب إلى التداخل وغياب الحدود بين المصطلحين، كنت توقفت عند شهادة عن غسان كنفاني كتبها عنه القاص محمد البطراوي واقتبست منها في مقالة لي بعنوان «غسان كنفاني عائداً في صهريج وقود»؛ ما يلي (يقول الكاتب محمد البطراوي في شهادة له عن أديب «الهدف»: «كان يحلو لغسان كنفاني، دائماً، تحويل النهايات، ففيما كنا نشاهد معاً فيلماً حزيناً جدّاً، هو «سارق الدراجة»، راح غسان يتحدث، عند خروج الجمهور من السينما، والكلّ متأثر أو دامع العينين، قائلاً بصوت عالٍ، كي يسمعه الخارجون من الصالة: «لماذا لَمْ يَشترِ له أحد درّاجةً ليغنينا عن هذا البكاء». ضحك معظم الجمهور، ثمّ قال لي هامساً: «أرأيت كيف تتحوّل النهايات؟».

الآن شعوب عظيمة تعيش اللحظة التراجيدية العظيمة. والسياسة تمارس الألعاب بشكل كوميدي ومأسوي في آن.

في المنطقة العربية كانت وما تزال التراجيديا الفلسطينية هي صاحبة السبق.. ولا يزال في أذهاننا، في هذه اللحظة من لحظات «الربيع العربي»، الشعب المصري كمثال لم يفصل، في الواقع، بين التراجيدي والكوميدي في ثورته. الشعب السوري الآن في موقف تراجيدي عظيم أيضاً لا يخلو من مهارة الكوميديا الحمصية، بالرغم من هول الموقف وغزارة البكاء.