المثقف الجديد!
على مدى عقدين من الزمن كان أغلب النشاط الثقافي السوري محكوماً بثلاثية «التسليع- النفعية- الذاتية» فإما أن «المثقف» السوري كان يبحث عن سوقٍ لبيع بضاعته «الثقافية»، ولذلك كان من الطبيعي أن يفكر أولاً بـ«حاجة السوق» وكيفية نيل رضى (المنبر= الممول) الذي سيدفع من عرب النفط، أو كان همه إرضاء الجهة التي ستؤمن له فرصة «الظفر» بمنصب وظيفي رسمي فيكون «بروكوست» الثقافة (في إشارة إلى الشخصية الأسطورية التي تفصّل الناس على مقاس سريرها)
أو انزوى بعيداً مهزوماً بانتظار الفرج؟! وراح يخط ما تيسر له من تهويمات، ومنولوج و«فذلكات» الـ«أنا»، المقهورة بحكم السائد في البنية الاجتماعية والسياسية، فـراح «يثرثر» بطلاسم لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.. ولم يخل المشهد قط من مشاكسين كانت لديهم الحصانة اللازمة قيمياً والمهارة المعرفية ولم يغرقوا في هذه المتاهة، وما بدلوا تبديلا...
في ظل فوضى السلاح، وفوضى الأفكار، وفوضى المواقف، والاستحقاقات التي لاتقبل التأجيل والمراوغة، سقطت ورقة التوت عن الجميع، فإما أن يكون المثقف مثقفاً أو لايكون، ويصبح نسياً منسياً لا يسعفه كل الحبر الذي لوّث به بياض الورق، وكل اللغو الذي فرضه علينا بجبروت «الملتيميديا»، وتأثيرها المركب من خلال الصوت والصورة وغيرها..
مصدر كلمة ثقافة في العربية هو الفعل الثلاثي «ثقف»، وحسب معاجم اللغة «ثقف» الشيء أي تعلمه بسرعة، و«المثقف» هو الحاذق الماهر، وفي لغات أخرى ترتبط الكلمة بالقدرة على الإنتاج و الخلق والإبداع كوظيفة، والتأمل والتنبؤ كأدوات، تلك هي ميّزة المثقف الأساسية وهويته، وذلك هو مبرر وجوده، فإما أن يكون المثقف كذلك أو لايكون..
وعليه فإن النشاط الثقافي في ظل الـ «غيرنيكا» السورية وبعدها لن تبقى حكراً على أولئك الذين تصدروا الشاشات، والمنابر، فقد سقط بالملموس نموذج المثقف النخبوي ولم يعد بالإمكان أن يُختزل نسق إنتاج المثقف في قدرته على الفصاحة والتشويق ومحاكاة المشاعرفقط. بل صار لزاماً عليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبان ومنظم مقنع دائماً، وقد تكون دمعة أم سورية في أقاصي البلاد بما تحمله من دلالات ومعاني فعالة أكثرمن كل ما أتحفنا به مثقفو مرحلة العطالة السياسية بكل مواقعهم ومواقفهم، إلا من رحم ربي من المشاكسين؟!