أبو العلاء والفلسفة

أبو العلاء والفلسفة

 يفترض تاريخ الفلسفة شروطاً للتفلسف، يتوقف عليها ترسيم المرء في قائمة الفلاسفة، وعلى رأسها توفر المنهج، فالباحث في الفلسفة على طريقة الهواة الذين تعنيهم الفكرة الفلسفية أو يقفون عند مجرد التوفيق بين الآراء لا يرقى إلى مرتبة الفيلسوف. ومثل هذا الباحث قد يصل مع توفر الاحتراف إلى معلم فلسفة

فإذا اتقن المنهج واختار مذهباً معيناً ينشط فيه ارتقى إلى رتبة الشارح، وللشارح نفسه درجات تبدأ من معلم فلسفة وتنتهي بالفيلسوف. وحين نمعن الفكر في كلمة فيلسوف ودلالاتها في الثقافة العربية نجدها مبهمة غامضة الحدود، يمكن إيجازها بمن درس العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درساً متقناً وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، ونطلق عليه اسم فيلسوف أو حكيم. وغالباً ما يكون المنهج المتسق والقدرة على الإبداع شرطين لا غنى عنهما لتفرقة الفيلسوف عن غيره.

هل كان المعري فيلسوفاً؟

يزعم طه حسين أن الناس لا يعرفونه إلا رجلاً ملحداً، فإذا سألتهم عن علة إلحاده، رووا لك أبياتاً في اللزوميات، تنطق بإنكار الشرائع، وازدراء الأنبياء، وهذا القدر هو فقط ما عرفه الناس عن فلسفة أبي العلاء. طرح  هذا السؤال عميد الأدب العربي في كتابه القيم «تجديد ذكرى أبي العلاء» و الذي  نال به درجة دكتوراه في الأدب. وكان جوابه بعد دراسة وتمحيص نعم كان أبو العلاء المعري فيلسوفاً.

اجتمعت في فيلسوف المعرة  المقومات النموذجية لمفكر حر، ألمَّ بفكر العرب وثقافتهم، واستمدَّ من تلك الثقافة رموزها الفلسفية، فأنضجها في أتون العقل، وصنع منها مشروعاً حضارياً عملاقاً نستطيع القول إنه  ما زال حياً إلى يومنا هذا. وهو بهذا القيد يكون المعبّر الأمثل عن منحى التنوير في الإسلام. وبفضل طه حسين وعائشة عبدالرحمن عاد فيلسوف المعرة رمزاً من رموز الاستنارة وحرية الفكر وشجاعة العقل في العصر الحديث، أو كما قال الجواهري:

أحللت فيك من الميزات خالدة

حرية الفكر والحرمان والغضبا

ويعلق هادي العلوي على هذا البيت قائلاً: «مع مراعاة قيود التعبير الشعري لا أود أن ينحصر الذهن في أن فيلسوف المعرة لم يتميز إلا بهذه الخصال الثلاث العظيمة، حرية الفكر، الحرمان الطوعي، الغضب، النقد، نزعة التمرد، حالة العصيان ضد الثوابت المترسخة في مجتمع متمدن».

وتنصب في فيلسوف المعرة خلاصات حضارة عملاقة، كان هو جزءاً متميزاً منها وعنصر تمرد أساسي ضدها؛ فهو نتاجها، الذي توجت فيه حتى بلغت النقطة الحرجة التي تؤذن بالانعطاف في مجراها الرئيسي لكي تستحيل إلى شيء آخر ينفيها في مجرى جديد، تنحل فيه تناقضاتها المدمرة لتبني كياناً آخر ينطلق منها دون أن يتعثر بأشلائها. ولعلها لو استجابت له حين بلغت الذروة  لما سقطت شهيدة العجز عن التفتح والتجدد و الديمومة. وقد كانت  فلسفة أبي العلاء نتيجة ما طاف به من أحوال عصره. ومن الواضح أن هذه الأحوال لم تَزدْ على أن زهدته في الحياة وحملته على التفكير والدرس، اللذين أنتجا له كثيراً من آرائه الخاصة في الفلسفة.

سلطة المعرفة

لقد استطاع بفكره الفلسفي المبثوث في مؤلفاته تجاوز زمانه ومكانه ليكون حاضراً في أي مسعى منشود لفيلسوف حرّ يريد أن يوحد بين الذات والنص لتوطيد سلطته الثقافية والفكرية. وهذا ما جعل عسكرياً غازياً يفك الحصار عن بلدة المعرة، ويتراجع عن خطة لاجتياحها واستباحتها بمناشدة منه. وهي حالة نادرة، أن يتراجع عسكري أمام فيلسوف، فقد كانت جيوش أسد الدولة صالح بن مرداس، صاحب حلب، تحاصر أسوار معرة النعمان وتتأهب لاقتحامها. فهرع أهلها إلى فيلسوفهم، الذي سفه أخلاقهم وعاداتهم ومعتقداتهم وخرافاتهم، فتوسلوا به إلى صالح، فخرج إلى ظاهر البلدة. وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فتح وخرج منه أعمى يتوكأ على قائد له، فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعوا القتال للنظر ماذا يريد؟ وكان قد أعد لهذه اللحظة لزومية قال فيها:

تغيبت في منزلي برهة

ستير العيوب فقيد  الحسد

فلما مضى العمرإلا الأقل

وحُمَّ لروحي فراق الجسد

بُعثتُ شفيعاً إلى صالح

وذلك من القوم رأي فسد

فيسمع مني سجع الحمام

واسمع منه زئير الأسد

ورد عليه القائد: «بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام وأنت الذي نسمع منك زئير الأسد». ثم سأله عن حاجته فأخبره بها، فأصدر أمراً فورياً بالانسحاب، وترك المعرة لأهلها. فيلسوف المعرة، رهين المحبسين، وبصير زمانه. درس على أبيه حسب ماورد في كتاب «عن فيلسوف المعرة» لعائشة عبدالرحمن. رحل إلى حلب حيث كانت الحركة الثقافية لا تزال نشيطة. وزار أنطاكية وطرابلس الشام ومر باللاذقية وأخذ من علوم اليونان وآرائهم الفلسفية. ثم رحل إلى بغداد ومكث عامين عاد بعدها إلى معرة النعمان ليجد أمه قد لحقت بأبيه، فاعتزل الناس إلا خاصة طلابه وخادمه، حتى وفاته.

ترك الفيلسوف أكثر من خمسين كتاباً، فُقدت معظمها في اجتياح البيزنطيين لمعرة النعمان بعد وفاته بزمن، وإحراقهم مكتبتها، ومنها مكتبته الشخصية التي كانت في منزله وتضم مخطوطات فريدة لمؤلفاته.