استيقظت نواطير مصر عن ثعالبها
للمتنبي في كافور الإخشيدي حاكم مصر لأثنين وعشرين عاماً، قصيدة دالية شهيرة يعرفها الناس، هجاه فيها، فكان لاذع الهجاء.
ففي ليلة عيد الأضحى سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة أنشأ قصيدته الباكية الساخطة في ثلاثين بيتاً والتي أولها:
عيد بأية حال عدتَ يا عيد
بما مضى أم لأمر فيه تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيداً دونها بيد
ولعله في هذه القصيدة هجا المصريين جميعاً، وربما وفق في تصوير شيء من مواطن الضعف فيهم، وأحسن تصوير لون من ألوان أخلاق المصريين حين وصف إذعانهم وخنوعهم لهذا الأسود، الذي كانوا يرونه يُضرب ويهان ويعبث به في الأسواق، كما يقول طه حسين، ثم أصبحوا يرونه حاكماً فذاً يدينون له بالطاعة والخنوع. وحين بقيت مصر أياماً بغير أمير بعد أن مات علي بن الأخشيد، وكان الأمر في يد كافور، حتى اتفق أعيان مصر على تأميره، فنال السلطان الأسمي إلى السلطان الفعلي، وخطب له على منابر مصر والحجاز وبعض الثغور الرومية، حتى توفى وعمره خمس وستون سنة بعد أن حكم مصر وما يتبعها اثنين وعشرين سنة، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن فيه. كان كافور قوياً شجاعاً داهية حازماً، وكثيراً ما مدح أبو الطيب كافوراً بالشجاعة والحزم:
وما كنتَ ممن أدرك الملك بالمُنى
ولكن بأيام يُشبنَ النواصيا
وكذلك كان كافور بصيراً بالعربية والأدب، محباً للعلماء والأدباء ويقرب الشعراء ويجيزهم، وكان ديناً متواضعاً، قال الذهبي: وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس، ويقول: اللهم لا تسلط عليَّ مخلوقاً. وكان كذلك سخياً كثير الهبات والخلع. ويتبين مما تقدم أن أبا الطيب حين قدم مصر، قدم على رجل ذكيّ فطن حازم مجرب له بصر بالأدب. وهذا يدلنا على ما كان بين الرجلين من بَعد.
ما الذي أمّل الشاعر من كافور؟ ولماذا خيَّب كافور أمله؟ كان أبو الطيب ضيف كافور مدة مُقامه في مصر والتي بلغت أربع سنين وستة أشهر. ولو كانت منية أبي الطيب أن ينال مالاً من كافور لبلغ بعض منيته، فقد أعطاه كافور وأكثر، ولكن أبا الطيب تاقت نفسه إلى إمارة أو ولاية. وقد جاء في كتاب الصبح المنبي: أن أبا الطيب سأل كافوراَ أن يوليه صيدا من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد. فقال له كافور: أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين، سمت نفسك إلى النبوَّة فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك؟ وما أحسب أبا الطيب كان غبياً عن أثر ما يقول ويفعل في نفس كافور ولكن الرجل كان عظيم النفس أبيَّاً جريئاً لا يحاسب نفسه فيما يقول، ولا يبالي كثيراً موقع كلامه من نفوس الممدوحين، ولم يكن إشفاقه من العواقب يملك عليه قوله وفعله ويخفض من كبريائه. وبالعودة إلى القصيدة التي ذكرناها بداية، فليس هناك أصدق لساناً ولا أبرع تصويراً من هذا البيت الذي قاله المتنبي في أهل مصر:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
لقد ألهم المتنبي البلاغة والحكمة معاً، وأغلب الظن أن المتنبي مدين لمصر بكثير من حكمته، حيث وفق في هذا البيت من القصيدة أن يختصر لوناً من حياة أهل مصر منذ أبعد العهود. ولو أن التاريخ أراد أن يحصي الثعالب التي عاثت فسادًا في أرض مصر وأموالها، فأخذت منها ما أطاقت وما لم تطق، حتى أدركتها التخمة وما فوق التخمة، وقادتها غافلون، ونواطيرها نائمة، وشعبها بركان خامد، وأموالها مع ذلك لا تفنى ولا تنفد، ودول الثعالب يتلو بعضها بعضاً، ويقتفي بعضها إثر بعض، لما استطاع. ويسأل طه حسين حين درس هذه القصيدة في كتابه الشيق مع المتنبي: أيأتي يوم يكذب فيه هذا البيت من شعر المتنبي فلا تنام نواطير مصر ولا تبشم الثعالب فيها ولا يعدو الماكرون والغادرون على أهلها الآمنين الغافلين؟ نعم أيها العميد ها قد أتى هذه اليوم، واستيقظت نواطير مصر، وفار التنور.صحيح أن الثعالب تقاوم الهزيمة إلا أنها ستهزم في النهاية. والقصيدة كما وصفها عميد الأدب العربي متينة رصينة، ولعلها من أجود ما قاله المتنبي في فن الهجاء.