الإحساس بالدونية.. وعقدة تفوق الغرب
نجوان عيسى نجوان عيسى

الإحساس بالدونية.. وعقدة تفوق الغرب

تنتهي الكثير من الحوارات حول تأخُّر العرب وتفوق الغرب الحضاري، إلى تقرير هذا التفوق بوصفه ظاهرة أصيلةً لا مجال للـ«تخفيف» منها إلا باستيراد منجزات الحضارة الغربية والنظم المعرفية والمؤسسات المدنية التي قامت عليها للخروج من واقعنا المتردي. على أن أخطر ما في هذا الإحساس بالدونية تجاه الغرب، أنه يقدم على ألسنة كثير من «المثقفين» دون تحليل أسبابه، كما لو أنه ظاهرة هبطت من السماء، ليصل الأمر حد قول بعضهم إن العرب أصلاً لم يكونوا يوماً شركاء في صناعة الفكر، وإنما كانوا مجرد ناقل له في مرحلة ما من مراحل التاريخ.

 

يمكن للمتابع اليوم، أن يرى لدى العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين، وهم بغالبيتهم أبناء المؤسسة الإيديولوجية الرأسمالية، عشرات التنظيرات حول عدم استعداد العرب بحكم طبيعتهم لتلقي مفاهيم المجتمع المدني والديمقراطية وممارستها، وغالباً ما يترافق هذا الخطاب مع تأكيد سيادة الغرب وتفوقه على كل الصعد الثقافية والفكرية، ومن ثم الاقتصادية والسياسية. وهكذا فإن وجهة النظر العنصرية هذه، جاءت لتكرِّس معرفياً، هيمنة الغرب واستمراره في السيطرة على منطقتنا ونهب مقدراتها، وتجد هذه «المركزية الغربية» جذورها لدى العديد من الباحثين والمفكرين الغربيين منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ومنذ أن قرر الألماني «تنيمان» أن طبيعة العرب القومية تحمل ميلاً إلى التأثر بالأوهام مما يعيق النظر الفلسفي لديهم، ومنذ أن قرر الفرنسي «رينان» تقسيم البشر إلى آريين وساميين، وأن الآريين يتفوقون في الفلسفة وغيرها على أبناء الجنس السامي. وإذا كان هذا الأسلوب في تفسير الأوضاع الثقافية والفكرية والسياسية السائدة لدى شعب من الشعوب في مرحلة من مراحل التاريخ، يتضمن وجهة نظر عنصرية أسقطها التاريخ والعلم، فإنه لا يزال حاضراً بقوة في الغرب «الرأسمالي»، وإن من خلال تحميله بحمولات جديدة بعيدة شكلياً عن العنصرية العرقية البائدة، من قبيل نظرية صدام الحضارات التي أتحفنا بها «صموئيل هانتنغتون».

إلا أن ما يعنينا هنا أن عدداً من «المثقفين» العرب، يتبنون وجهة النظر هذه، ويطرحونها بوصفها حقيقة، بل إن لدى عدد منهم باعاً طويلاً في تصديرها بعد إعادة إنتاجها عربياً إلى الغرب. وتستمر هذه الطروحات في إعادة إنتاج ذاتها فيما يستمر الانقسام بين سلفية معجبة بإنجازات الغرب، رافضة للحوامل الفكرية والحضارية لهذه الانجازات، وبين «استغراب» يدعو إلى تبني كل المنجزات الحضارية الغربية مع محاولات يائسة لاستيراد حواملها الفكرية، واستيراد المؤسسات التي تعيد المدنية الغربية إنتاج ذاتها من خلالها، دون الانتباه إلى أن مؤسسات مدنية دون مدنيين، ومؤسسات ديمقراطية دون ديمقراطيين، لن تكون إلا هياكل فارغة من أي مضمون.

وهكذا فإن المشكلة ليست في الاعتراف بالتفوق الغربي، ولكن المشكلة تكمن في كيفية فهم هذا التفوق والظروف التاريخية التي أرسته، وإدراك أنه ليس منّة من السماء، ولا واقعاً يمكن تأبيده، وإنما هو حصيلة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبرى رافقت ولادة الرأسمالية وتطورها، لذلك لا بد من وضعها في إطارها التاريخي الصحيح عند البحث فيها، للاستفادة من منجزاتها الحضارية والفكرية دون إحساس بالدونية أو استسلام للتبعية.

إن الاستمرار في إعادة استنساخ عقد ومركبّات النقص، وإعادة إنتاج ما يملى علينا من دروس التفوق الغربي، والدعوة إلى تمثله دون فهم جذوره، مع ما يقابل هذه الدعوة من انغلاق سلفي على المنجزات الفكرية للحضارة الغربية، لن يقود إلا إلى الاستمرار في تكريس هذا التفوق، وصولاً إلى محاولة تسويق كذبة إمكانية تصديره على ظهر الدبابات عندما تقتضي مصالح الإمبريالية العالمية ذلك.