وصية الحطيئة
زكريا محمد زكريا محمد

وصية الحطيئة

تنسب إلى الحطيئة، جرول بن أوسٍ، الشاعر المخضرم، الجاهلي الإسلامي، وراوي زهير بن أبي سلمى، وصية لعلها أغرب وصية تقدم بها شاعر عربي على الإطلاق. ويمكن للمرء أن يشك في أن هذه الوصية موضوعة، أو أن أجزاء كثيرة منها موضوعة.

لكن ليس من السهل الشك في أن الوصية تعكس الصورة العامة عن هذا الشاعر، وهي الصورة التي خلقها هو بنفسه عن نفسه، أو ساهم على الأقل بقوة في خلقها. والوصية تريد أن تقول لنا أن الحطيئة أراد تأكيد هذه الصورة حتى وهو على فراش الموت. أي أن يجعلها صورة لا تمحى. فلحظة الموت هي لحظة غفران الذنوب، ولحظة تعديل الصور. لكن الحطيئة أراد، في هذه اللحظة بالذات، أن يؤكد ذنوبه، وأن يحفر بيده صورته هذه على صخر الموت.

يمكن القول بالتالي، أن من اختلق الوصية، إن كان هناك من اختلقها حقا، كان يدرك عنصرين رئيسيين من عناصر الصورة التي رسمها الحطيئة لنفسه: الأول؛ استهتار هذا الشاعر بالحياة ومقدساتها، الثاني؛ عمق هوسه بالشعر. إنه عابد من عباد الشعر حقا.

في ما يخص العنصر الأول تقدم لنا الوصية رجلا يستغل لحظة الموت كمنبر يقدم فوقه مرافعته ضد الحياة وتقاليدها. فبدل أن يودع هذه الحياة وهو يرثي نفسه كما اعتاد كثير من الشعراء قبله، ينسى هذه النفس، ويتجاهلها، كما لو أنها كيان غريب عنه، ويركز بدلاً من ذلك على الحياة والتقاليد والشعر.

كل جملة من هذه الوصية تتقدم كي تنقض تقليدا اجتماعيا أو شعريا. فإذا كان التقليد أن يرثي الشاعر نفسه، وأن يتسمع إلى أصوات من يبكونه من الأحبة، أو ان يتحسر على عدم وجود من يبكيه، كما كانت الحال مع مالك بن الريب:

تذكرت من يبكي علي فلم أجـد/ سوى السيف والرمح الرديني باكيا

وأشقر خـنذيذ يجـر عنـانـه/ إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا

إذا كان هذا هو التقليد، فإن الحطيئة يرمي به. فبدلا من حصان ابن الريب (الأشقر الخنذيذ) نجد حمارة: (قالوا: فهل شيء تعهد فيه غير هذا؟ قال: نعم، تحملونني على أتانٍ وتتركونني راكبها حتى أموت، فالأتان مركبٌ لم يمت عليه كريمٌ قط؛ فحملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون عليها حتى مات).

لا مجال لرثاء النفس عند الحطيئة. لا مجال ل (تذكرت من يبكي علي). وهو ليس مشتاقا لأصوات أحبته الباكين حوله. ليس له أحبة في مواجهة الموت. لا يهمه أن يغادر الركب ويتركه وحده، أو أن يغادر هو ويترك الركب لمصيرهم. يريد أن يعبر (تقليد) الموت عند الشعراء وهو يهتكه ويلعنه. إنه إذاً يمارس النقد، نقد التقليد الشعري، وهو على فراش الموت. لديه الطاقة كي يفعل هذا وهو تحت رعدة الموت. وهو لا يضرب التقليد الشعري فقط، بل يضرب التقليد الاجتماعي كله. كل القيم التي تُستحضر عند الموت يمزقها    إربا ويجعلها هباء. فحين يُسأل أن يقول كلمة في حق الأيتام، يقول: (كلوا أموالهم و... أمهاتهم!).

قسوة ما بعدا قسوة. قسوة وانحطاط. مع ذلك، يجب أن لا نغفل أننا هنا أمام رجل يريد أن يصفي حسابه مع المجتمع والحياة قبل أن يرحل. رجل يعي ما يقول، ويريد أن يسمع الكل ما يقوله. ليس لديه رحمة لشيء ولا لأحد.

لا، لديه رحمة لشيء واحد. شيء واحد يثير عاطفته. شيء واحد يجعله يبكي خوفا عليه وإشفاقا: الشعر. نعم، الشعر، ولا شيء غيره. فقد بكى لمرة واحدة أمام مشيعيه، فسألوه: لم تبكي؟ فأوضح لهم أنه لا يبكي أحبته الذين يفارقهم، ولا يبكي نفسه، بل يبكي الشعر: (أبكي الشعر الجيد من راوية السوء).

أمر لا يصدق، حقا. يموت وهو يبكي الشعر إشفاقا من رواية سيئ يرويه على غير وجهه!

أما الوصية الحقيقية التي قدمها فهي تخص الشعر أيضا. كل ما عدا ذلك كانت وصايا مناكفة ومعاكسة وتهشيما وتمزيقا للمجتمع والدين: للأيتام قال: (كلوا أموالهم ونـ... أمهاتهم). للفقراء والمساكين: (أوصيهم بالإلحاح في المسألة فإنها تجارةٌ لا تبور). لأولاده: (للأنثى من ولدي مثل حظ الذكر). لغلامه، حيث قالوا له: (أعتق غلامك فإنه قد رعى عليك ثلاثين سنة. قال: هو عبد ما بقي على الأرض عبسي).

أما وصيته حول الشعر فهي: (أوصيكم بالشعر خيراً). وصية إشفاق وحنان. وصية محبة.

لا شيء عند الحطيئة غير الشعر. ليس له أحبة غير الشعر. الشعر تركته وإرثه وورثته. الشعر دينه ومعتقده. لذا كلما سألوه ان يوصي أوصى حول الشعر وبحق الشعر. قالوا له: أوص، فرد بسؤال: (من الذي يقول: إذا أنبض الرامون عنها ترنمت/ ترنم ثكـلى أوجعتها الجنـائز؟ قالوا: الشماخ؛ قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. قالوا: ويحك! أهذه وصيةّ! أوص بما ينفعك! قال: أبلغوا أهل ضابىءٍ بن الحرث أنه شاعر حيث يقول: لكل جديد لذة غـير أنـنـي/ وجدت جديد الموت غير لذيذ... وهكذا.

وصية مدهشة.

وصية يحق للشعر أن يعتز بها.

وصية يجدر بالشعراء أن يتذكروها.