التراث الشعبي الشفاهي ومجمع اللغة العربية
كرّس التراث الشعبي بشقيه المادي واللامادي كعلم قائم بذاته منفصل عن العلوم الأخرى التي كان ممزوجاً كعلم التاريخ، والجغرافيا، وغيرهما وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح يدعى بعلم (الفولكلور)، وأفردت له الكراسي الخاصة في الجامعات، وصار يدرّس كغيره من العلوم، جرى هذا في البلدان المتقدمة معرفياً، وعلمياً، وثقافياً خاصة في أوروبا
وأصبحت له أهمية كبرى لما يحمله من المعارف، والاستنتاجات، والشواهد على قضايا غامضة. وأخذ علم التاريخ يعتمد عليه، ويعتبره في الدرجة الثالثة من مصادره، ومراجعه. إذ يعتمد هذا العلم في تحقيق نتائجه والبرهنة عليها على ثلاث قضايا هي:
1 ـ الشواهد الأساسية كالآثار.
2 ـ الكتابات ـ المخطوطات
3 ـ الآثار الباقية في التراث الشعبي الشفاهي أي الكلمات ومن هذه الناحية نتبين أهميته، ومدى الخسارة بضياعه.
لقد شعرت بعض الشعوب الأوروبية والحكومات بذلك مبكراً، وأدركت أنها إذا لم تقم بجمع تراثها فإنه سيضيع الكثير من القضايا المعرفية، خاصة ألمانيا فإنها أخذت تجمع تراثها الشفاهي، وانتهت من ذلك منذ ما يقارب الثلاثمائة عام وأكثر، وتبعتها الشعوب الأوروبية الأخرى. أما في بلداننا العربية فلم تقم بالبداية بذلك إلا في ثلاثينيات القرن العشرين. وسبقت مصر معظم البلدان العربية. أما عندنا وللأسف فلم نبدأ بالجمع للتراث وبحثه إلا مؤخراً، أي منذ عشرين سنة لا أكثر، وذلك بضغوط من اليونسكو وغيرها. لأنه كان ينظر إلى التراث الشعبي نظرة دونية، أو لا يعار أي اهتمام به، أو أنه أقل قيمة من غيره من الدراسات والعلوم، وكل هذه النظرات علمياً هي نظرات متخلفة وجاهلة، وغير واعية ولا تنم عن أية معرفة، وبالتالي فيها عدم شعور بالمسؤولية، ولولا بعض شيوخ هذه الدراسات المغامرين الذين يجب أن تقام لهم التماثيل الذين لاقوا العناء والتعب أمثال الأستاذ منير كيال وغيره.. لم نكن لنجد شيئاً ولضاع الكثير من تراثنا.
وعندما بدأ القليل من العناية يظهر من جانب بعض المسؤولين بالتراث وأهله، وذلك بعد أن ضاع الكثير الذي لن نستدركه، أخذ المتخلفون الجدد والمحافظون بوضع العصي في طريق التقدم بهذا المجال، وأخذوا يعملون جاهدين لوقف هذا الزخم من العمل بالجمع والبحث، واستطاعوا إصدار قرار ينص على أنه لا يطبع أي كتاب في التراث الشعبي إلا بعد أن يمر على المجمع، ويوافق عليه، وبهذا أعادوا عشرات الكتب إلى أصحابها عن طريق الهيئة العامة للكتاب، رغم أن أصحابها أمضوا السنين في تأليفها، وجمع هذا التراث وبحثه، واستصدار النتائج القيمة منه.
وعمم هذا القرار على وزارة الإعلام، واتحاد الكتاب، وكل الجهات المعنية بالطباعة بحيث أن الكاتب لن يستطيع طبع كتابه حتى على نفقته.
وحجتهم هي: أن التراث الشعبي سيقوم بنشر اللهجة العامية، والمساعدة على تفشيها، وقبل بحث تفشي العامية نبين أن كل تراثنا الشعبي لم ينقل إلينا إلا شفاهاً، أو باللهجة العامية في كل جوانبه، في الحكاية، والأغنية، والسيرة، والمثل الشعبي، والهنهونة، والزغرودة وغيرها من جزئياته، ونحن علمياً لا نستطيع تفصيح ذلك لأنه سيضر بهذا العمل ويفقدنا الكثير من المعلومات، والمكتشفات والفوائد التي ستجنى من تركه مثلما نقل إلينا، ويعتبر تفصيحه أو التعديل فيه خيانة علمية لأنه ظل يعيش معنا هكذا آلاف السنين، ونقول إن ذلك موجود في عدة مراجع منها: كتاب علم الفولكلور للعالم الكسندر هاجركي كراب(1). ويبدو أن هؤلاء الناس غير مطلعين على هذا الكتاب أو غيره من علوم الفولكلور.
أما عن قضية تفشي العامية في بلادنا فنقول: نحن نتكلم ونتحدث في بيوتنا بالعامية مع زوجاتنا وأولادنا، وكذلك غيرنا، بما فيه المجمعيون الذين لا يتكلمون الفصحى في بيوتهم، ولا في عملهم، وفي السوق نجد البقال واللحام والتاجر وبائع الخضار، وكل العاملين في الأسواق لا يتكلمون إلا اللهجة العامية. كذلك العاملون في الدولة وغيرهم. وفي المدارس ومعاهد التعليم، والجامعات ماذا يتكلمون؟ والطامة الكبرى هي الرائي والحاكي فكل من يتكلم فيهما ينقل ثقافة اللهجة العامية. وبعد هذا القول نسأل: من يقوم بالمساعدة على تفشي العامية هل كتب التراث الشعبي؟ هل هم الباحثون في هذا التراث؟ هل جامعو هذا التراث؟ وهل يمكن بعد الحديث عن كل من يقوم بالمساعدة على تفشي العامية اتهام الباحثين، علماً أن التراث الشعبي هو علم لا علاقة له بذلك مطلقاً وأبداً. هو علم كما بينا يبحث في المعرفة، معرفة علاقات الناس بعضهم ببعض، علم يساعد الفصحى بالبحث عن بعض الكلمات التي قد تكون ضائعة، أو على معرفة مصير بعضها الآخر، علم يفتش عن العلم يفشي العلم وليس العامية.
متخلفون جدد أم أن وراء الأكمة ماوراءها؟ لأن علم التراث الشعبي يستنتج ويكشف المخبوء من وسائل الجهل التي تسود المجتمع، والمخبوء تاريخياً من علاقات لا إنسانية تشكل حجر عثرة ضد تقدم المجتمع، علم يميط اللثام على كذبات تاريخية كثيرة، ويقدم للناس الحقائق ظاهرة غير خفية.
علم (الفولكلور) وبالمناسبة أضحت هذه الكلمة كلمة عالمية، علم مثل علمي اللغة والفيزياء.
إذن هل نستطيع أن نسأل أن هذا القرار المتخذ بأن تمر كل كتب التراث الشعبي على مجمع اللغة العربية هل هو قرار قصدي؟ هل من وافق عليه يهمه وقف البحث في التراث وإيقاف جمعه؟ هل يتضرر بعض الناس من ذلك؟
إن هذا القرار إن لم يرفع، ويبطل العمل به هو تدمير للتراث الشعبي، وإحباط للعاملين به من الجامعين والباحثين، ووضع القيود في أيديهم وأرجلهم، بل وفي أعناقهم لمنعهم من رؤية أي شيء. هل هكذا يراد لهذا العلم أن يموت؟ وأن يموت تراث شعبنا الغني الذي يندر وجود مثله لدى الشعوب الأخرى؟ تراث يعود إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد يراد له الموت؟ يراد دفنه والتعتيم عليه.
إن التقدم الجاري في مجالات الصناعة والزراعة لن يهمنا مطلقاً وإن الأعمار لن تتوقف، بل إن التقدم جارٍ، وهو أحد الأسباب الرئيسية لموت كثير من جزئيات تراثية خاصة الحكايات الشعبية، والأغاني، وأغاني العمل إجمالاً، وأغاني المواسم، وكذلك فإن مجمل التراث الشعبي هو في ذاكرات كبار السن الذين لن يمهلهم القدر ليعطونا ما عندهم، لذا فإننا نرى أن استمرار العمل بهذا القرار الظالم والجائر هو المسمار الأخير في نفس التراث الشعبي في بلادنا.
هامش:
علم الفولكلور: تأليف الكسندر هاجركي كراب ـ ترجمة رشدي صالح