بين قوسين: النازحون
لم يدفع النظام الرسمي العربي أيّاً من أثمان الهزيمة الكبرى التي مني بها في ما يسمى «حرب» حزيران 1967، لا السياسية ولا الاجتماعية، بل استطاع بالتضليل والشعارات والوعود والوعيد والقبضة الأمنية والرضا الدولي أن يحافظ على عروشه، وأن يضمن لها الاستمرار لوقت أطول.. ولعل مثقفي بلاطاته حين ابتدعوا مصطلح «النكسة»، لم تكن غايتهم التخفيف من وقع الهزيمة إعلامياً وسياسياً أمام الجماهير وعدّها مؤقتة ومرحلية وحسب، بل ربما كانوا يشيرون بشكل أو بآخر، بالـ«اللا وعي» ربما، إلى أن تبعات ما حدث سيتحملها آخرون، بعيدون كل البعد عن الأسوار «الرسمية» العالية والقصور الفارهة والمكاتب الوثيرة والتأثير في القرار..
في سورية التي خسرت معظم جولانها وجزءاً من حورانها في تلك «الأيام الستة»، تزامنت ولادة مصطلح «النكسة» مع ولادة توءمه «النازحون»، وهم –كما هو معروف- المهجّرون من القرى والمناطق التي احتلها العدو في ذلك العدوان، ويقارب عددهم اليوم نحو نصف مليون إنسان.. هؤلاء نزحوا عن ديارهم بما استطاعوا حمله من متاع بسيط، وتدفقوا إلى درعا ودمشق وريفها ليسكنوا في تجمعات قيل عنها وقتئذٍ إنها «مؤقتة»، لكنها استمرت، ومازال معظمها قائماً حتى الآن، دون أن يتوفر فيها الكثير من الخدمات والحاجات الإنسانية..
وهكذا تكرر التهجير في أقل من عشرين عاماً، وأصبح «النازحون» نظراء لـ«اللاجئين» الفلسطينيين، يشابهونهم في كل شيء، إلا في أمر واحد، وهو أن صفتهم الطارئة -أي النازحين- راحت تعني بالنسبة لشرائح محددة من السوريين، أناساً من مرتبة اجتماعية متدنية!.
وقد أسس لهذه النظرة الاتهامية المتعالية، الظروف البائسة التي ما انفك يعيشها معظم هؤلاء بسبب تدني درجة الاحتضان الرسمي لهم، والتي انعكست بصورة كارثية على مجمل معيشتهم وحياتهم.. فالنظر إلى أحوال النازحين سكناً وعملاً وعلماً وظروف معيشة وأسلوب حياة، يظهر عمق مأساتهم الإنسانية، شأنهم في ذلك شأن بقية الفقراء في سورية، ويفضح مدى تقصير الجهات ذات الصلة في رعايتهم والاهتمام بشؤونهم بوصفهم شريحة لها رمزية خاصة، ربما لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لكثيرين.. كما أن الإعلام الرسمي من جهة، والجهات التربوية من جهة أخرى، ساهما عبر كسلهما ونمطيتهما وضعف مبادرتهما، في تكريس هذه النظرة، خصوصاً وأنهما لم يبذلا طوال ثلاثة وأربعين عاماً أي جهد جدي ومدروس لجعل قضية الجولان المحتل وأبنائه، سواء النازحين أو المتشبثين بأرضهم، قضية شعبية و«يومية»..
من يرى في ذلك مغالاة، وسيذكّر بـ«الامتيازات الاستثنائية» المقدمة للنازحين، وبالبرامج والأفلام الإذاعية التلفزيونية وبالمقررات التعليمية التي تناولت قضيتهم.. فما عليه إلا القيام بزيارة ميدانية لمخيم الوافدين، أو الكسوة، أو دنّون، أو الحجر الأسود، أو حجيرة، أو سبينة.. ليرى كيف يحيا هؤلاء «المواطنون»، أو أن يسأل نفسه إن كان بإمكانه أن يعد أسماء خمس قرى محتلة..
النازحون.. أبناء «الجولان الحبيب (!؟)» نساءً ورجالاً، فلاحو الأمس، أصبحوا بغالبيتهم بين ليلة وضحاها وقد نهشهم الفقر والجهل والتهميش، عمال نظافة، أو مستخدمين، أو سائقي سيارات أجرة، أو بائعين متجولين لسلع مهربة، أو أجراء مطاعم وملاه، أو عاطلين عن العمل.. كما أن قسماً ملحوظاً منهم، أغواه الانحراف الاجتماعي والأخلاقي بعد أن فتك به اليأس وانعدام الحلول، فوقع بين براثنه..
اليوم.. ومع وصول الضغوط الاقتصادية – الاجتماعية إلى حدود غير مسبوقة، واتساع الهوة بين الأغنياء المتناقصين الممركزين للأموال والثروات فيما بينهم، وبين الفقراء المتزايدين المتهاوين بسرعة إلى ما دون خط الكفاف، يزداد وضع الناس عموماً والنازحين خصوصاً، سوءاً وتهميشاً، ولكن عدوهم الطبقي ما يزال أقوى وأبعد من أن تطاله أظافرهم.. فيتصارعون فيما بينهم.
يتعارك شابان فقيران في حي مساكن برزة بدمشق، فيشتم أحدهما الآخر: «نازح».. رغم أننا بالعمق، جميعاً نازحون..