الشجرة منكوسة
يورد لنا المسعودي في «مروج الذهب» قولاً ينسبه لأفلاطون. قال أفلاطون: الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنه شبيه شجرة منكوسة أصلها إلى السماء وفروعها في الأرض).
والحق أن ثمة في اليونانية ما يؤيد هذا. فهناك تورية معروفة- وهي ذات أصل ديني- بين «الإنسان» anthropos و «النبات المقلوب» anatrope، بما يجعل الإنسان: (شجرة مقلوبة، يقابل شعره جذورها) (نورثروب فراي، المدونة الكبرى).
ورؤية الإنسان كشجرة منكوسة، ليس معتقداً يونانياً في الحقيقة، بل معتقد عام للقدماء، في ما نرى. وتبعا لهذه المعتقد، فالإنسان «نبت سماوي»، سقط من السماء إلى الأرض في لحظة ما. وقد سقط كما كان في السماء تماما: جذره للأعلى «رأسه» وأغصانه للأسفل «رجلاه».
وهكذا يسقط الأطفال، في الواقع، من أرحام أمهاتهم: تسقط رؤوسهم إلى الأرض، ثم تسقط أرجلهم. وإذا حدث وبرزت رجلا الطفل قبل رأسه فهذا هو الوضع الخطأ، طبياً ودينياً. فالإنسان يجب أن يسقط من رحم أمه على رأسه. من أجل هذا يسأل المرء عن «مسقط رأسه» لا «مسقط رجليه». رحم الأم هنا تمثيل للسماء. فالإنسان يكون في رحم أمه كما كان في السماء: شجرة معتدلة، أي يقف على رأسه. بالتالي، فالإنسان حين ينزل للأرض يكون منكوسا بالنسبة للأرض لا بالنسبة للسماء.
غير أنه يعدل من هذا الوضع لاحقاً. فبعد عام أو عام ونصف من عمره يقلب نفسه، ويسير على قدميه، أي يتخلى عن صورته السماوية، وينكس نفسه آخذاً صورة أرضية.
بالتالي، فالسقوط من رحم الأم ليس هو النكسة أو الانتكاسة. السقوط التالي، أي السقوط في الحياة، والمشي على صعيدها، هو السقوط الفعلي للإنسان.
عليه، فنكسة الإنسان أعمق من أن يداوى. فهو ملزم إذا أراد أن يتجاوزها أن يسير على رأسه، أي أن يعود إلى ماضيه السماوي. وجوده على الأرض هو، إذاً، نكسة وخيانة لأصله السماوي. الموت، إذاً، هو اعتدال الإنسان بالمعنى الديني. فهو عند موته يعود إلى السماء، أي إلى أصله.
الحياة، دينيا، نكسة. وكي تخرج من نكستها، وتعتدل، عليها أن تحن إلى الموت.