التنويم الجمعي
في عام 1843 قام طبيب العيون الانكليزي بريد بالاكتشاف التالي: إذا تركنا شخصا ما يثبت بصره لبضع دقائق على شيء لامع يُمسك بأريحية فوق العينين على بعد حوالي 20 سم، يحدث تلقائيا منعكس إغماض الجفنين تمهيداً لحالة خاصة شبيهة بالنوم.
وجراء الشبه بين الحالة الناتجة عن تثبيت البصر والنوم ، فقد دعا (بريد) هذه الظاهرة بـ (التنويم) (HYPNOSE باليونانية:تعني النوم).
المحطتان الأهم التاليتان في التاريخ الحديث للتنويم هما نانسي وباريس.
في نانسي كان يعمل كل من «ليبولت» و»برنهايم» على متابعة تطوير وبحث التنويم (1866- 1884) وقد نجحا في محاولة إحداث نوم تنويمي عن طريق الإيحاء الشفهي.
فالإيحاء يحتل مراكز افتراضاتهما النظرية كعامل جوهري في التنويم ويجري الكلام في المصطلحات الحالية عن مرتكز تحفيزي نفسي .
في الوقت ذاته تقريبا كان طبيب الأعصاب وفيزيولوجيا الدماغ «شاركو» يقوم بتجاربه في التنويم في مشفى الأمراض العصبية الباريسية سالبترييه ولما كان جميع مرضاه تقريبا يعانون من الهيستيريا وبما أن جميع النفاسات كانت تفسر آنذاك مثلها مثل الهيستيريا على أنها مرض دماغي مجهول فقد كان من المنطقي بالنسبة لشاركو أن يفتش عن التفسير النظري للتنويم أيضا في حدثيات فيزيولوجية معينة في الدماغ.
سيغموند فرويد الطبيب الفاشل الشاب ،اخذ يتردد على كل من برنهايم في نانسي وشاركو في باريس بغية تعلم تقنية التنويم شخصيا ولما عاد إلى فيينا لم يحقق نجاحات كبيرة في عيادته الخاصة بالمعالجة بالتنويم ذلك أنها لم تكن بغيته
والواقع أن فرويد كان قد تعلم عند برنهايم تجربة تحولت بالنسبة له إلى منطلق لتأملات افتراضات مبدئية.
كان برنهايم يدع متطوعيه يقومون أثناء التنويم بأفعال محددة موحى بها ويحاول عن طريق الإيحاء بعد التنويمي، التوصل إلى عدم قدرة المتطوعين بعد التنويم تذكر الأفعال والأحداث في أثناء التنويم. بالفعل فقد كان الأشخاص في حالة اليقظة بعد التنويم يفتقدون إلى أي تذكر لمدة التنويم
بناء على ذلك حاول برنهايم ممارسة ضغط نفساني متزايد الشدة على المرضى وكان ينبغي عليهم بذل الجهد وتذكر المدة الزمنية المنسية ثانية.
أخيرا طفت نتف أولى من الذكريات، وتمكن المتطوعون في النهاية تدريجيا من تذكر سائر الأحداث في أثناء التنويم ثانية وقام فرويد بنقل هذه الخبرة في نانسي إلى القصص المرضية عند العصابيين.
فقد خمن أن في قصة حياة المريض النفسي ثمة حادثة أو عدة حوادث لا يريد تذكرها، وقد أقصاها عن ذاكرته ولكن مثلما يمكن للمرء إبطال فقدان ذاكرة مُحدث تنويميا من خلال إجراءات نفسانية ،فلابد من أن يكون من الممكن ،بالقياس استرجاع الأحداث المنسية أو بالأحرى المكبوتة خارج حياة المريض إلى الوعي ثانية ،هذه التقنية المتمثلة في جعل المادة المنسية واعية من جديد، تابع فرويد تطويرها ،ونعرفها اليوم باسم «التحليل النفسي».
ولما كان فرويد، في كتابات اللاحقة قد أدلى برأيه سلبيا في التنويم ،فقد قيد انتشار التحليل النفسي المعالجة التنويمية بصورة متزايدة وشكلت بلدان الكتلة الشرقية استثناء ،حيث لم يتمكن التحليل النفسي من تثبيت قدمه فيها ولذا احتل التنويم مكانا لا جدال فيه بوصفه تقنية للعلاج النفسي .
والسؤال هل كان من مصلحة فرويد تقييد هذا العلم لإنجاح نظريته أما أن هناك من تدخل لإيقاف البحث في هذا العلم ؟
غالباً ما يجري تحريض النوم التنويمي عن طريق إيحاء شفهي بالتعب والنعاس، وكثيرا ما يتم دعم هذه الإيحاءات بتثبيت البصر على شيء لامع، قلم، وريقة ملونة، لولب أو ما شابه.
يختلف طول هذه المرحلة الأولى ،وتتعلق بالمتطوع وبكون الأمر يتعلق بتنويم للمرة الأولى.
إذا تم بلوغ تنويم عميق ،فإن التكرار اللاحق للتحريض غالبا ما لا يدوم أكثر من دقيقة واحدة.
بالمقابل قد يمتد تحريض التنويم الأول إلى خمس عشرة دقيقة تقريبا بعد بلوغ الحالة التنويمية يمتثل المتطوع لكل أمر يوحي به المنوم الذي يمكنه إثارة سائر الاهلاس المرغوبة مثال على ذلك:
إذا أوحي المنوم بأن برودة الطقس لا تطاق ،يبدأ جسد المتطوع بكامله بالارتعاش بردا وإذا قال إن حرارة الجو تتزايد ويغدو حارا، يبدأ المتطوع بالتعرق إلى أن يقطر العرق من جبين يمكن لأجزاء الجسد عن طريق الإيحاء أن تتيبس،تنشل أو تفقد الإحساس والأشد إدهاشا للمراقب أن الطلب إلى المتطوع المنوم فتح عينيه لا يقطع التنويم أو يخل به بأي حال.
لا حدود للتجارب التنويمية وكل من شهد مرة عرضا تنويميا مسرحيا، يدرك هذا التنوع في الإمكانيات.
يبقى أن نوضح بإيجاز مفهوم «ما بعد التنويم» يمكننا أن ندع إيحاء معطى في حالة التنويم يواصل فعله بعد الإيقاظ، أو أن نقرن أمرا ما في حالة التنويم بإشارة مالا تعطى إلا بعد التنويم في حالة اليقظة.
على هذا النحو يمكن استدعاء جميع ظواهر التنويم في حالة اليقظة أيضا، وذلك في حال تم الإيحاء بها في أثناء التنويم وتم قرنها بإشارة ما.
ثمة ظاهرة أخرى هامة غالبا ما يمكن ملاحظتها في الإيحاءات ما بعد التنويمية : الميل إلى عقلنة التصرفات كل مهمة مغروسة في أثناء التنويم تفرض نفسها بعد التنويم في حالة اليقظة أيضا : يقوم المتطوع بفعل شيء ما لأن ببساطة يجب عليه فعله ولكنه لا يعلم لماذا وإذا تعلق الأمر بمهمة تكاد تكون غير منطقية فإنه يراقب فعله الخاص في أثناء التنفيذ بدهشة واستغراب
ولنفهم ما ذكر أعلاه بما يحدث الآن من بث إعلامي وتنويم لوعي الجماهير وإبقائها تحت سيطرة العنف ،من جهة أخرى لكي نلغي فكرة ما أو اعتقاد معين يجب أن يكون هناك حدث هام يلفت الانتباه ويزيل الاعتقاد بل يلغيه تماماً من ساحة الوعي واللاوعي ليفسح المجال أمام الجديد.