ادوارد سعيد بين الاستشراق والثقافة و الامبريالية 2\2
استفاد إدوارد سعيد من تجربته كمواطن أمريكي قادم من الشرق الأوسط، لفهم أيديولوجية الغربيين، مما مكنه من إنجاز دراسة دقيقة حول علاقة الشرق بالغرب الاستعماري، ويقول ادوارد سعيد في هذا الصدد:
« إن معظم مافي هذه الدراسة من استثمار شخصي ينبع من وعيي لكوني شرقيا، نشأ طفلا في مستعمرتين بريطانيتين، ولقد كانت كل دراساتي ، في هاتين المستعمرتين -فلسطين و مصر- وفي الولايات المتحدة غربية، بيد أن ذلك الوعيالعميق المبكر استمر رغم ذلك بإلحاح ، وبطرق عديدة ، فإن دراستي للاستشراق كانت محاولة لجرد تلك الآثار علي «أنا» الموضوع الشرقي، للثقافة التي كانت سيطرتها عاملا على درجة كبيرة من القوة في حياة جميعالشرقيين ، وذلك هو السبب في أن الشرق الإسلامي بالنسبة إلي كان لابد أن يكون مركز الاهتمام»، وكان هدفه بكل ما أنتجه هو أن يبرهن على أن كل الأنظمة الثقافية الغربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسات واستراتيجياتالقوة.
إن قدرة إدوارد سعيد التحليلية جاءت مرتكزة على سياق معرفي وبحثي، يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الغربيين المعاصرين هما : الفرنسي Michel Foucault والإيطالي Antonio Gramci، ومن الممكن اعتبار هذينالمفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري.
ويبدو جلياً تزود إدوارد سعيد بترسانة من الأدوات النقدية المتميزة، والتي كانت تقرن المعرفة بالقوة والخطاب، والتمثيل، والحقيقة، والسيطرة، والإقصاء، والإنشاء، والاختلاف، وسواها وظّفها في خدمة المفهوم المركزيالمعتمد، فما كان نظريا ربما لدى Foucault ، أصبح لدى سعيد تطبيقيا حين ذهب إلى أبعد مداه في معالجة مفهوم الخطاب المؤسساتي عن الشرق. و الخطاب كما يشير العديد من المحللين هو عبارة عن أنظمة معرفية تحددوتتحكم بطرق وأساليب التمثيل في أي مجتمع. وإذا كانت منهجية Foucault في تحليل علاقات القوة والمعرفة، تعمل على فضح أنظمة الاستبداد وأشكال عملها في الفكر والمؤسسات، فإن ذلك لا يقود إلى أي مقاومة، ولا يحفزفي وضع برنامج عمل، وهذا هو الفرق الحاسم بين تفكير Foucault و إدوارد سعيد، الذي يشدد على مفهوم المقاومة وعلاقة النصوص بشروطها المكانية و الزمانية، لأن ثقافة المقاومة تولد من رحم ثقافة الهيمنة طال الزمن أمقصر، وهي أطروحة من أطروحات ما بعد استعمارية.
وينبه إدوارد سعيد إلى أن المقاومة أو ثقافتها يجب ألا تكون مجرد رفض للآخر، فموقف الرفض سيقوي من شوكة الهيمنة، لأن الآخر يرى فرصة ربما تكون ذهبية لاستعادة هيمنته، أو استمرارها في رفض الرفض بكلبساطة.
وهنا يمكن النظر إلى كتاب «الثقافة والإمبريالية» على أنه امتداد وإعادة رؤية في العديد من الأفكار والأطروحات التي تم تناولها بإسهاب في كتاب «الاستشراق»، فمن جهة حاول الكتاب أن يفتح فضاء أوسع للجدل الخاصبالعلاقات بين الثقافة وتاريخ الإمبريالية، وذلك بتناول العديد من المناطق الجغرافية تتجاوز الشرق، وتشمل حقول بحث وإبداع كالرواية والشعر، يقول إدوارد سعيد في هذا السياق :»إنها الكتابات الأوروبية على إفريقيا و الهندو بعض مناطق الشرق الأقصى و استراليا و جزر الكاريبي ، إنني لأعتبر هذه الإنشاءات الافريقانية و الهندانية يسمى بعضها، جزءا من مجمل الجهود الأوروبية لحكم بلدان و شعوب نائية، و اعتبرها لذلك مترابطة معالأوصاف الاستشراقية للعالم الإسلامي».
وحرص ادوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية، على كشف زيف الثقافة الغربية، التي ادَّعت طوال قرون عمقها الإنساني والحضاري، بينما هي في الحقيقة كانت عملية شائكة ومترابطة إلى أبعد الحدود مع الفكر الإمبرياليللاستعمار عبر التاريخ الغربي، خاصة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ويرى إدوارد سعيد أنَّه إذا كانت المعركة الرئيسية في العملية الإمبريالية قد دارت طبعاً من أجل الأرض والثروات لكن حين آلالأمر إلى مسألة من كان يمتلك الأرض ويملك حق استيطانها والعمل عليها ومن استعادها ومن يرسم الآن مستقبلها فإنَّ هذه القضايا قد انعكست ودار حولها الجدال بل حسمت أيضاً لزمن ما في السرد الروائي.
ويضرب لنا ادوارد سعيد نماذج مهمة، ناطقة، فكان المثال الهندي من أهم تلك الامثلة، فالمملكة البريطانية فرضت إمبراطورتيها، وامبرياليتها على الهند التي كان عدد سكانها ثلاثمائة مليون نسمة، مستخدمة جيشاً بريطانياً قوامهلا يتعدى ستين ألف جندي، يصاحبهم أربعة آلاف موظف، ومعهم تسعون الف مواطن مدني بريطاني، وهذه الحقيقة الغريبة يتفهمها كاتب روائي بريطاني هو كنرال ويبررها في رواية طريق الهند أو رواية كيم كموقع طبيعيلا مبرر له في الواقع الا بفكرة ضرورة الإمبراطورية البريطانية كأمر عادي .. بل لا مفر منه والروائي الشهير كنراد لا تبدو عليه علامات العجب او الاعتذار للشعب الهندي الرافض لهذا المد الامبريالي بل ان رواياته تتناسىقضية «ماشية» اسمها الشعب الهندي.
ويحلل لها سعيد كذلك الظاهرة الشعرية لشاعر بريطانيا إليوت، حيث يتوارى الواقع الامبريالي خلف أجواء وفضاءات خيالية جمالية فنية لا مجال فيها لتحليل القهر اليومي المسلط على شعوب الجنوب من الاحتلال البريطاني،واسقط ذلك على الاستعمار الفرنسي للجزائر تحديدا، ولكل المغرب العربي، منذ 830هـ، فقد تجاهل أدباء ومثقفون فرنسيون علميات الإبادة الجماعية والتعذيب والتفقير، ليقول لنا إن أدبهم الروائي والشعري لا يتسع لاحتواءنكبة هذه الشعوب العربية، مستثنياً موقف الفيلسوف الوجودي «جون بول سارتر» ضد التعذيب في الجزائر، لا ضد احتلال الجزائر، واضعف منه موقف الكاتب الفرنسي المولود بالجزائر والحائز على جائزة نوبل «البيركامو»، وتأتي ثقافة المقاومة الجزائرية والمغاربية لدى فرانز فانون ومالك بن نبي وابوة القاسم الشابي والشيخ بن باديس والشيخ الثعالبي والشيخ البشير الإبراهيمي ومفدي زكريا والشاذلي عطاء الله وغير هؤلاء كثيرون، منيعود لهم الفضل الثقافي في إحياء فكرة وتطبيق المقاومة، التي مهدت الطريق للمقاومين، بالمقاومة وبالسياسة، للانتصار على الامبريالية الغربية واستعمارها الزائل.