حاجة الجميع إلى الجميع
لو كانت الكلمات خبزاً لأشبعت جياعاً كثيرين، ولو كانت الكلمات رائحة فقيد أو دفء حضن أب لعادت السكينة إلى الأرواح، لو كانت الكلمات أقل بلاغة وأكثر منطقاً لكانت بالمحصلة أقرب إلى النفوس.
تناثرت الكلمات في وطني كالزجاج المحطم، وجرحت ولوثت حتى امتلأ الهواء برائحة الدماء.
لن تبني الكلمات وطناً تهدم، ولن تدمل جراحاً تزداد وسعاً عند كل تصفيق.
يعد التوجه الفكري للإنسان من أهم المزايا التي تحدد وتقيّم مستوى الوعي ونوعية الثقافة التي اكتنزها أياً كان طوال حياته، وهو الضمان الأول والأخير للوصول كمجموعة بشرية إلى حلول مرضية بعيدة عن الكيدية.
لا يعني ثبات التوجه الفكري الجمود الصرف في الآراء، حيث يضمن هذا الثبات وجود الركيزة المتينة لتطور المدارك واتساع الآفاق وتنظيم إيقاع اكتساب المعرفة، وهو قابل للتغير المنتظم والمتدرج والمعلل لارتباطه الوثيق بالإدراك والتعلم.
لكن أهميته الكبرى تكمن في أنه المعيار الأساسي في رسم الحدود القصوى الحاضنة للأفكار الإبداعية وهو الإطار العام الحاوي لآراء الإنسان. وبالتالي، كلما كانت هذه الحدود أكثر اتساعاً وأعلى سقفاً استطاع الإنسان المفكر استيعاب ما يدور حوله من أفكار واستقبال وجهات النظر المتضادة وإجراء الفرز المنطقي المطلوب لها وإعادة ضبط بوصلته الفكرية بعد ان أصبحت ذات البوصلة - بفضل ما تم اكتسابه للتو - أكثر مناعة في مواجهة أي عوامل قد تعمل على تغييرها.
وبناءً على ذلك يحلو للكثيرين تخيل أن هذا السقف أو هذا الإطار وهمي مصطنع وغير حقيقي، تحت حجج تعكس عجزا فكريا عميقا يمتد تأثيره السلبي ليشمل المحيط الفكري لذلك الإنسان، عندها يبدأ ذلك المتذاكي بالتفاخر «بحريته الفكرية» وقدرته على تبني الجميع واستيعاب الجميع ومناقشة الجميع دون أن يدري بأنه يقذف من جميع التيارات نحو مختلف الاتجاهات فهو مع الجميع ضد الجميع يتبنى جميع البيانات ويشارك في كل التجمعات متعامياً عن حقيقة مرة تتمثل في أن السبب الوحيد الذي يجعله غير قادر على رؤية ذلك الإطار يتلخص في تدني ذلك السقف وصغره لدرجة انطباقه على نفسه تاركاً تلك الأفكار تسبح في المجهول يتسلى بها من يريد كيفما يرد.
شخصياً أرى أن هذه الجماعات من مدعي الفهم تمثل خطراً أكثر عمقاً من غيرهم فهم وقود سريع الاشتعال، بأعداد كبيرة، ومسلحون بخوف مكتسب وحقد موروث، أدوات طيعة بأيدي الخبثاء من المتطرفين القلة الأسهل حصراً وعزلاً، لذا تحتاج هذه الجماعات إلى توجيه المزيد من الأضواء إليها والتغاضي عن «الترف الفكري» والتعالي الذي مارسته النخبة المثقفة على هؤلاء دون بذل أي جهد إضافي لاجتذابهم كونهم يشكلون للأسف نسبة مثيرة للاهتمام من جمهور الشباب السوري المتخبط في الأزمة.
إذ قد لا تكمن المشكلة اليوم بشكل مباشر مع العقل الخبيث المخطط والزارع لبذور التطرف الفكري، فمن غير المعقول القفز فوق جماهير واسعة من الشباب مفترضين عودتهم إلى جادة الصواب والاتزان في الآراء بمجرد إيقاف ذلك المصدر عن عمله والأجدى العمل على التوازي لقتل التطرف في المهد وتحييده قبل أن يشتد عوده ويجعل من حاضنه مصدرا جديدا لبث السموم نفسها.
سلم الكثيرون بالتأثير العميق لسنين من التحييد المقصود وغير المقصود للفكر الشاب المتجدد المنفتح على الساحة الفكرية السورية، والتزموا مخاطبة صفوة فقدت ثقة جمهورها وانجرفت بعيدا عن طموحاته، لذا تبدو الحاجة إلى العمل مع الجميع دون ترفع أو تأفف ملحة أكثر من أي يوم مضى للوصول مع الجميع إلى الحل الأشمل والأسلم.