أمل دنقل وأغنية الثورة المقدّسة
رائد وحش رائد وحش

أمل دنقل وأغنية الثورة المقدّسة

في عام 1972 شهدت القاهرة حدثاً وطنيّاً تاريخيّاً كبيراً، إذ احتشد طلبة الجامعات، في ميدان التحرير، معترضين على أكاذيب أنور السادات الذي أشبع الشعب المصري بوعود خلبيّة أن العام المذكور سيكون عام الحسم مع العدو الصهيوني. الطلبة المصريون نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على حالة «اللا سلم واللا حرب»، بعد حملة اعتقالات واسعة شهدتها الجامعات المصرية أواخر عام 1971.

ولأنّ الشعب كان يرى جيّداً بالبصر والبصيرة سمّى تلك السنة بـ«عام الضباب»، والمعروف أنّ ذلك الاحتجاج الشعبيّ العارم الذي تمثل في الاعتصام، حول النّصب التذكاري الذي كان قائماً فيه، فضّته أجهزة الأمن بالقوة خوفاً من تفاقم نتائجه، وسقط عدد من الطلاب ضحية الاصطدام.

هذه الحادثة التاريخيّة أرّخها الشاعر العربيّ الكبير أمل دنقل في قصيدته «سفر الخروج» أو «الكعكة الحجرية» حسب عنوانها الثاني، وقد ألقاها في الميدان محمولاً على أكتاف الطلبة الذين راحوا يرددون وراءه: «أيها الواقفون على حافة المذبحة/ أشهروا الأسلحة/ سقط الموت/ وانفرط القلب كالمسبحة».. هذه القصيدة تفرض نفسها الآن بعد انتفاضة تونس، وتحركات الشارع العربيّ من أجل الحريّة والكرامة والخبز.. لذا نقف هنا لنقرأها ونستعيدها ونحتفي بشاعرها.

نشر أمل دنقل قصيدته للمرة الأولى في مجلة «سنابل» التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ، فأغلقت المجلة لكنّ القصيدة ظلّتْ تُقرأ في المحافل الطلابية، وظلَّ صاحبُ الأناشيد الثورية الكبرى «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» و«كلمات سبارتكوس الأخيرة» و«لا تصالح» أكثر الأصوات الشعرية تجاوباً مع وجدان الجماهير الساخطة حتى وقتنا، وبسوية فنيّة تضاهي أهمية القضايا.

القصيدة نُشرت في ديوان الشاعر «العهد الآتي» الذي جاء صرخة شعريةً عربيّةً مدويةً. فـ«العهد الآتي» الذي كتبه أمل هو العهد المستقبلي الذي لن يكون إلا عهد الإنسان الحرّ، في عالم عادل يصون القيم والأحلام.

ترخي السياسات الساداتية، على هذا الديوان، كما أشرنا، ظلالها الثقيلة، من انتقال سياسة الدولة إلى اليمينية، وانتفاضة الطلاب اليساريين والناصريين ضد الظلم الذي تمارسه أجهزة هذا النظام الذي بدأ يحيد عن الخط الوطني.

إنها قصائد احتجاجية على كل ما حدث في مصر بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، من دخول البلاد في تحالف مع دول النفط، وتقوية التيارات الدينية المتطرفة، وازدياد ثروات القلة المتنفذة على حساب الأغلبية التي لا تجد الطعام، إضافة إلى تزايد سطوة الأمن التي لم تتوقف عن مطاردة المثقفين.. هذه الأشياء مجتمعةً دفعت الشاعر إلى إدانة العهد القائم، العهد الخانق للجسد، الضاغط على الروح، والرغبة باستبداله بعهد آخر، يكون عهداً للإنسانية والعدل، مستلهماً في ذلك كلمات السيد المسيح التي وضعها في بداية الكتاب كمفتتح لما يريده: «مملكتي ليست من هذا العالم». فإذا كان الكتاب المقدّس يتكوّن من «العهد القديم» (التوراة)، و«العهد الجديد» (الإنجيل)، فإن «العهد الآتي» المكتوب شعراً هو عهد الحرية، وهو العهد الدنيويّ بمقابل العهد الديني، العهد الإنسانيّ بمقابل الإلهي، بمعنى العهد الذي سيصنعه البشر على الأرض متحدّين كل أشكال الاستبداد والهيمنة ومحاولات الاستغلال.

استعار الشاعر بعض المفاتيح من العهد القديم والجديد، في عناوين ديوانه المقدّس: «سفر التكوين، سفر الخروج، المزامير..»، وفي تقسيم القصائد إلى «إصحاحات» أو «مزامير»، بالإضافة إلى استلهام اللغة الدينية في الصلوات والأدعية، لكنه لم يستسلم لشكلها المعروف، بل راح يضيف إليها، ويحوّر فيها، بحيث تغدو ملائمة لغاياته، وطبعاً العملية تسمى في عرف أهل الأدب بـ: المعارضة..

في معارضته للنص التوراتي «سفر التكوين» الذي يتحدث عن الخلق معلقاً على كل مرحلة بعبارة: «ورأى الرب أنّ ذلك حسناً»، ستتحور العبارة في «سفر التكوين الدنقلي» لتصبح: «ورأى الرب ذلك غير حسن»!! وفي قصيدة «صلاة» تستمر اللعبة ذاتها، فإذا كانت الصلاة المسيحية تقول: «أبانا الذي في السماوات»، ستتحوّل إلى «أبانا الذي في المباحث».. في تهكمية رثائية تحمل صليب آلام الأرواح التي فتكتْ بها القوة القمعية..

ديوان «العهد الآتي» هو التعبير الشعري عن تصاعد الانكسار في عهد السادات المنقلب على الأحلام القومية. ويمكننا النظر إلى نصوص هذا الديوان بوصفها نصوصاً مُقاوِمة، مُقاوِمة للقمع، مقاومة لمحاولات إماتة الروح الحالمة، مقاومة للعالم الزائف الذي عاشه الشاعر وأراد استبداله بعالم أوسع مدى وأرحب آفاقاً، ولأن «الثورة الأبدية» لا تموت، فلا بد من تغيير جذري يبدأ من كل ما هو ثابت بموجب سِفْر تكوين يطيح بكل هذا الخراب، ويعلن تكوين عالم جديد، لا بقوّة «كن فيكون» بل بقوة إرادة الشعب.

«سفر الخروج»، قصيدتنا، بالعنوان المستعار من نص خروج اليهود من مصر، تصوير دراميّ لفكرة الخروج على، لا الخروج إلى، عبر لوحات مشهدية تسجّل وتقرأ وتستشرف..

القصيدة كما يقسم الناقد محمد عبد العال مشاهدها تصوّر: «اللوحة الأولى: تصور المتظاهرين في قلب الحدث. اللوحة الثانية: تصور من هم خارج الحدث ويكتفون بالتعليق، وهم الغواني وأشباههم من أدوات للسلطة. اللوحة الثالثة: تصور أيضاً من هم خارج الحدث ما بين مهتم ومنصرف. أما الإصحاح السادس فهو مكون من مقطعين، ويرتبط كل من الإصحاح الأول والثالث والخامس حيث بدأه أمل بجملة تحمل صيغة الطلب إن لم تكن تبدأ بفعل الأمر، كذلك يرتبط الإصحاح الثاني، والرابع، والسادس، فكل منها تبدأ بـ «دقت الساعة»، وكأن هذا تتابع بين الأمر وبين دقات الساعة/ طبول الحرب ، فكأن الطلب بـ«أشهروا الأسلحة»، و«لا تبدئي بالسلام»، و«اذكريني» مترتب عليه دقات طبول الحرب..».

فلنقرأ القصيدة، الآن وغداً، ونصب أعيننا كل ما جرى ويجري على الساحات العربيّة..