المشهد المرعب
زكريا محمد زكريا محمد

المشهد المرعب

ثمة مشهد مخيف في رحلة ابن بطوطة. ومنذ أن قرأته وأنا في بداية شبابي، وهو يعاودني كالكابوس، ويجعلني أفقد ثقتي بالبشر إجمالا. أشفق عليهم وعلى هشاشتهم، ويصيبني الذعر منهم ومن هشاشتهم هذه. المشهد جرى في ديوان ملك (مل جاوة). وقد شهده ابن بطوطة بنفسه، ولم يروه عن أحد. في المشهد يقف رجل يحمل بيده سكينا، ثم يلقي خطبة في مدح الملك، وبعد أن ينهيها يقوم بقطع عنقه بالسكين. نعم، الرجل ذاته يقطع عنق نفسه بالسكين، تأكيدا على حبه للملك!

يقول ابن بطوطة في باب ذكر سلطان مل جاوه ما يلي: «ذكر عجيبة رأيتها بمجلسه: ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلا بيده، قد وضعه على رقبة نفسه، وتكلم بكلام كثير لم أفهمه. ثم أمسك السكين بيديه معا وقطع عنق نفسه، فوقع رأسه لِحدّة السكين، وشدة إمساكه بالأرض. فعجبت من شأنه، وقال لي السلطان: أيفعل أحد هذا عندكم؟ فقلت له: ما رأيت هذا قط. فضحك وقال: هؤلاء عبيدنا، يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرفع وأحرق. وخرج لإحراقه النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا. وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه، وعظموا لأجل فعله. وأخبرني من كان حاضرا في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به، كان تقريرا لمحبته في السلطان، وأنه يقتل نفسه في حبه، كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه، وجده قتل نفسه في حب جده، ثم انصرفت عن المجلس».

أليس هذا مشهدا يثير الذعر؟ أليس مشهدا مرعبا؟ أن يقف بشر ما ليقطع عنقه بيده تعبيرا عن حبه للسلطان، وأن يتقبل السلطان ذلك ضاحكا، وأن لا يقع الجالسون، ومن بينهم ابن بطوطة، مغشيا عليهم من هول المشهد، أليس هذا أمراً يجعلك تحتقر البشر وتخاف منهم في هذا اللحظة عينها؟

أإلى هذا الحد تصل هشاشة الإنسان؟ أإلى هذا الحد تصل هيمنة السلطة وقداستها. أهؤلاء الذين قال عنهم الله (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)؟ أهؤلاء هم الذي جعلهم الله خلفاء في الأرض؟ أهؤلاء هم الذين أنتمي إليهم؟

أي هشاشة، واي صغار؟ أي شعور يمكن لي أن أحمله تجاه هؤلاء سوى الشعور بالشفقة المقرفة؟!

ولا تظنون أن هذا المشهد لا يتكرر. هو يتكرر كل يوم، بشكل أو آخر. يتكرر عند مادحي السلاطين ولاعقي أحذيتهم. ربما أنهم لا يذبحون أنفسهم بالسكين، لكنهم يذبحون غيرهم، وينتهون إلى أن يُذبحوا في حب السلطة والسلطان.

ما لم يكنس السلاطين، وما لم تذل السلطة وأدواتها، فلن يكون الإنسان إنسانا أبدا.