الثورات الفنية وتحولات النموذج

الثورات الفنية وتحولات النموذج

يؤكد «روبرت دبليو ويتكين» الأستاذ في علم الاجتماع في جامعة «أكستر»، في كتابه «الفن والبيئة الاجتماعية» أن الثورات الفنية، تتضمن شأنها شأن الثورات العلمية «تحولات في النموذج» شديدة الصلة بالتغيرات الاجتماعية والسياسية الكبرى

وتمثل أحد هذه التحولات في تطور ما يعرف بالأسلوب «الطبيعي» في التمثيل، في الفنون البصرية في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، ثم طرأ تحول آخر في العصور الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حيث تبنى فنانو عصر النهضة، كنموذج مثالي، أسلوباً يهدف فيه الرسم إلى تحفيز القيم البصرية التي يمكن اكتسابها بالملاحظة الحسية للطبيعة. الأمرالذي تطلب حدوث تطورات تقنية معينة كانت ضرورية لتحقيق درجة عالية من الواقعية الحسية. فسمح اختراع الألوان الزيتية بتصوير أكثر بريقاً وواقعية على أسطح من كل أنواع المواد. كتصوير درجات لون البشرة. وساعد اكتشاف المنظور الخطي- أي التقاء الخطوط المتوازية وهي تبتعد من المشاهد نحو نقطة في الأفق- على التصوير الواقعي لنسب الحجم والمسافة وعلى فتح الفضاء العميق في اللوحة، مما سمح بتصوير ثلاثي الأبعاد على سطح مسطح. بالإضافة إلى تطور توزيع الضوء والظلال الذي جعل الأشياء تبدو أكثر واقعية مما كان ممكناً في السابق.

إن التفسير المبسط سيذهب إلى أن هذه الاكتشافات التقنية هي السبب في حدوث تحول في النموذج في عالم الفن. كما لو أن الثورة في الفن يمكن أن تعزى ببساطة إلى التطورات التقنية وحدها، متجاهلين التغيرات على مستوى التشكيلات الاجتماعية التي أسست عليها مثل هذه التطورات. ولكن تاريخ الفن يجب أن يقودنا إلى الشك بمثل هذا التفسير. لأن مقاربة النموذج المثالي للتمثيلات البصرية للمنظور الطبيعي ليست بالأمر الجديد. فقد أنتجت المجتمعات اليونانية والرومانية الكلاسيكية شيئاً مقارباً للفن القائم على المنظور الواقعي ولكن المجتمعات الأوروبية تخلت عن هذا التراث الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، اتبع المسيحيون الأوائل مسار المنظور الواقعي في العام نفسه الذي عرفته روما، ولكن منذ القرن الثاني للميلاد أخذ الفن المسيحي يمر بمرحلة تغير في الأسلوب راسماً الصور بشكل أقل واقعية وأقل تقيداً بالأبعاد القياسية وصار الرسم شكلياً وتخطيطياً، وساد هذا الوضع قروناً. وهكذا اختارت هذه المجتمعات الخاضعة أصلاً لتأثير روماني التخلي عن أنماطها المتقدمة تقنياً والسعي وراء أنماط غير واقعية في التمثيل.

وقد ظهر في وقت ما أشخاص– مثل أفلوطين صاحب الأفلاطونية الجديدة-  تجنبوا الإشارة إلى العوامل التقنية وبرروا التراجع عن الواقعية والقيام بتسطيح المساحات المصورة على أنه تحّول روحاني في الفن. لكن يبدو واضحاً، أن مجرد وجود أو غياب تقنيات معينة لا يمكن أن يرسخ أسلوباً فنياً أو يحفز أسلوباً جديداً ما، لأن الوسائل الجمالية توظف أساساً في الرسم لأداء مهمة فكرية وإذا تساءلنا عن الاحتمالات الدلالية لصورة ما سنبتعد عن فكرة أن الرسم يصنع لمجرد تحقيق جمال مثالي وميول حسية منفصلة عن عالم الأفكار.