هوليوود تعقّم التاريخ وتدجّن الصراع
بانة بيضون بانة بيضون

هوليوود تعقّم التاريخ وتدجّن الصراع

 اختزال وتبسيط يمتلئ بهما فيلم The Butler للي دانيالز. تزامناً مع «اثنا عشر عاماً من العبودية»، تواصل هوليوود مراجعة حقبة مخزية من التاريخ الأميركي استمرّت 200 عام من خلال شخصية كبير الخدم في البيت الأبيض.

«التزم الصمت وأنت تخدم. لا أريد أن أسمع حتى صوت تنفسك. يجب أن تبدو الغرفة كأنها خالية عندما تكون فيها». هذه هي التعليمات التي تلقاها سيسيل صغيراً من مالكة مزرعة القطن المسنة البيضاء التي أشفقت عليه بعد مقتل أبيه على يد سيده الأبيض، فأخذته لتعلّمه كيف يكون «زنجي منزل». دور سيمارسه لبقية حياته، ولو بألقاب وحقبات مختلفة، ملتزماً هذه القاعدة الذهبية التي كانت شرطاً لدخوله عالم الرجل الأبيض ثم البيت الأبيض. بمعنى آخر، دور يعني أنّ عدم وجودك هو الشرط الأساسي لوجودك في هذا العالم.

The Butler المعروض حالياً في الصالات اللبنانية، يروي قصة سيسيل (فورست ويتاكر) الذي عمل رئيسَ خدم في البيت الأبيض لـ34 عاماً، عاصر خلالها سبع ولايات رئاسية من إيزنهاور إلى ريغن. شخصية سيسيل مستوحاة من قصة حقيقية نشرتها «واشنطن بوست» عشية الانتخابات الأميركية التي فاز فيها باراك أوباما عام 2008 عن أوجين آلن رئيس الخدم الأسود الذي عمل في البيت الأبيض منذ فترة حكم ترومان حتى تقاعده عام 1986، وعايش معاناة السود في أميركا ورحلتهم الشاقة من العبودية والتمييز والفصل العنصري، ليشهد في آخر حياته فوز أول رئيس أميركي أسود. الفيلم الذي يحمل توقيع لي دانيالز يتزامن مع فيلم أكثر أهمية عن العبودية، هو «اثنا عشر عاماً من العبودية» لستيف ماكوين.

بالإضافة إلى فورست ويتاكر، جمع لي دانيالز نخبة من الممثلين المعروفين الذين يؤدون أدوار رؤساء الولايات المتحدة كروبن ويليامز (إيزنهاور)، وجون كوزاك (نيكسون) أو آلن ريكمان (رونالد ريغن) وجاين فوندا (نانسي ريغن). كذلك تؤدي أوبرا وينفري دور زوجة سيسيل، وتظهر ماريا كاري في مشهد مقتضب، مؤدية دور أم سيسيل التي انقطعت عن الكلام بعد اغتصابها ومقتل زوجها. يدخل سيسيل البيت الأبيض ونتلصّص معه على الحياة الخاصة لرؤساء أميركا. بينما يصبّ القهوة، نشاهد إيزنهاور يرسم لوحة أو جون ف. كينيدي مستلقياً على الأرض شاكياً من كثرة الحبوب التي يتناولها بسبب إصابته بمرض أديسون كما يصوّر الفيلم. أو نشاهد نيكسون منهاراً وثملاً بعد فضيحة «ووترغايت» أو ريغن في لحظة خاصة مع سيسيل يشكك في موقفه من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ومعارضته لفرض العقوبات. لكن المشهد الأكثر فكاهة هو للرئيس الأميركي ليندن بي جونسون الذي يعاني من الإمساك وهو يعطي الأوامر مباشرة من المرحاض الذي يجلس عليه والباب مفتوح على مصراعيه.

أثار الفيلم الكثير من الجدل بسبب طريقة تصويره للرؤساء وصعوبة التمييز بين الحقيقي والمتخيل. يستند المخرج إلى قصة حياة أوجين آلن كما نشرت في «واشنطن بوست»، لكنه يغير التفاصيل ويضيف الأحداث ليخلق صراعاً أكثر حدة. مثلاً، لأوجين ابن واحد بينما صار لسيسيل اثنان في الفيلم. أحدهما يقتل في فيتنام بينما الآخر يناضل ويقود الاحتجاجات ضد التمييز العنصري ويخوض معركته الخاصة مع أبيه الذي يعارض تمرده، بينما يرى الابن في عمل أبيه نوعاً من الخضوع لقوانين الرجل الأبيض. لكنّ النتيجة النهائية كانت شريطاً لا ينجو من الاختزالات والتبسيط، حيث تخلّص لي دانيالز من كل ما يمكن أن يزعج في تاريخ أميركا وأداء رؤسائها المتعاقبين، مقدماً عملاً «مقلّماً» لا يوجّه سوى نقد خفيف «مهذّب»، وسطحياً جاعلاً من الحركات الاحتجاجية مجرد ديكور من مارتن لوثر كينغ إلى «حزب الفهود السود».

يصوّر لي دانيالز تاريخ التمييز العنصري والعبودية في أميركا ونضال الأميركيين السود للمساواة من زوايا متعددة؛ فسيسيل الذي أردى مالك المزرعة أباه برصاصة في رأسه لأنّه اعترض على اغتصابه لزوجته، فهم باكراً أنّ حياته مشروطة بصمته وبقدرته على تغييب نفسه، بحيث لا يشكل تهديداً للرجل الأبيض (يجب أن تبدو الغرفة كأنها خالية عندما تكون فيها). سيسيل هو الرجل غير المرئي إلى حد ما، وهذا ما جعل هذه الشخصية استثنائية، وخصوصاً مع الأداء المتميز لفورست ويتاكر. إنه رجل غائب، لكنه حاضر بصمته، ذلك الصمت الثقيل الذي يروي أقسى وجوه القمع والتمييز العنصري، ألا وهو إلغاء الآخر، قتله افتراضياً وفعلياً. سيسيل يرى ويراقب بصمت كل التغيرات التي تجري حوله. لعل أهمية هذا الفيلم تكمن في أنه يروي تاريخ أميركا من خلال الضحية. وليس غريباً أن يصدر العمل بعد وصول أوباما إلى الحكم (مروّجاً له). ربما هناك حاجة إلى رواية التاريخ الأميركي من وجهة نظر الأميركيين السود الذين عايشوا كابوس الحلم الأميركي كما يقول سيسيل في النهاية: «أميركا لطالما كانت عمياء تجاه ما تفعله بأبنائها. ننظر إلى العالم ونحاكمه. نسمع عن معسكرات الاعتقال، لكن هذه المعسكرات استمرت لـ 200 عام هنا في أميركا!». لكنّ هوليوود حوّلت واحدة من أهم معارك الحرية في القرن العشرين، إلى مجرد ديكور في سياسة أميركا الاستعمارية المستمرّة بصور وأشكال مختلفة.

 

المصدر: الأخبار