نبوءات سعد الله ونوس
هو من رأى عندما اجتاح عماء أبيض العالم.. كان وحده زرقاء اليمامة.. رأى وفسّر الرؤيا، ثم وقف ممتلئاً بفخر السوري على الساحل الشرقي للمتوسط ليعلن انتماءه الصارخ للأمل، فجاء مسرحه بيانا لنبوءته حتى اختلط علينا الأمر فلا ندرك أين تنتهي حدود الخشبة وهل نحن ممثلون أم أن فضاء المسرح اتسع ليصبح واقعا؟؟
هو سعد الله ونوس تفصيل هام للحياة الفكرية والثقافية والفنية في سورية، إن لم يكن العالم، خرج عن البنيان الكلاسيكي.. رمى الكرة في حضن المتفرج.. لكنها كانت كرة نار جعلته يرتبك، إذ لم يعتد على أحد يضع يده في الجرح النازف بكل تلك الجرأة ولم يعد على أحد يطالبه ويسائله.. واليوم نتحقق صدق النبوءات، ونجدنا نعيد اكتشافها ونعيد قراءتها ليصطدم الرأس بكل قوة برائعة سميت «مغامرة رأس المملوك جابر».
يفتح الستار ونجد أنفسنا في مقهى مليء بالزبائن.. متفرجون مثلنا.. والحكاية الليلة تخصهم بقدر ما تخصنا، وكأننا هم أو كأنهم نحن، وكأن سعد الله خلق هذا النوع من المحاكاة ليخبرنا أننا على خشبة المسرح نشارك في الحكاية، وطوال المسرحية يتدخل الزبائن ليطرحوا آراءهم في ما يجري في الحكاية.. ثم يأتي الحكواتي.. بارد الطبع والصوت لا يثيره ما يروي لا يؤيد ولا يعارض إنما يسرد الأحداث ويترك لنا الحكم وكأنه التاريخ.
تقع أحداث حكاية السهرة في بغداد وقت احتدم الخلاف بين الخليفة ووزيره والغزو الخارجي قاب قوسين.. وعامة بغداد في كل زمان ومكان يبحثون عن السلامة يحكون معاناتهم آلامهم ومخاوفهم كأنهم يروون حكايتنا. يتفرجون على ما يجري دون أن يتدخلوا حتى اكتشفوا طريقا للأمان والسلامة يقولها أحدهم: «يأمروننا بالبيعة فنبايع»، و«من يتزوج أمنا نناديه يا عمنا».. ويتدخل زبون ليقول: «كأن الأحوال لا راحت ولا جاءت»، ويرد عليه آخر: «من زمان هذا هو طريق الأمان».. غير أن رجلا من العامة أصابته حمى التساؤل ضمن هذه الفوضى فمضى يطرح أسئلته واحدا تلو الآخر، ويبحث عن أسباب الأزمة محاولا الفهم فيتصدى له الباقون محاولين إسكاته، فهم لا يريدون أن يعرفوا وكذلك زبائن المقهى-نحن- لا يشغلهم السؤال الأساسي «لماذا»، وحالهم كحال البقية يهاجمون الرجل محاولين إسكاته وكأنهم قفزوا إلى ساحة العرض والحوار بينهم وبينه.. غير أنه يستمر في نذيره فيقول: «فوق رؤوسنا يتعاركان فوق هذه الرؤوس ستنزل أقسى الضربات.. إننا نتخلى عن رؤوسنا لنسلمها لأبشع الجلادين».. هذه حال سكان بغداد، أما الخليفة وأما وزيره فلم يكن في حسبان أحد منهما حال العامة.. مستخدمين أبشع الأساليب وأكثرها انغماسا في طين الخيانة.. إذ يحاول الوزير استقدام دعم أجنبي ليضمن سيطرته على بغداد مقدما لهم المدينة ومهيأ لهم أسباب النصر، غير مبال بنتيجته حتى لو كانت هلاك بغداد ذاتها. ويذكره صديقه وحليفه بأهل بغداد وإمكانية أنهم سيستغلون الفوضى يجيبه وقد علا محياه الاحتقار: «ومن يبال بالعامة لا.. هؤلاء لا يثيرون أي مشاكل يكفي أن تلوح لهم بالعصا حتى ينمحوا وتبتلعهم ظلمات بيوتهم»... وخليفة المسلمين يحرك بيادقه هو الآخر إذ يطلب الإمداد من الولاة حتى لو كان ثمنها استقلالها في ولاياهم، ماسحا هيبة الدولة كأنها إقطاعة يملكها وتفضل لبعض الجيران ومنحهم قسما من أرضه وعندما تقف أمامه صعوبة تأمين ما يحتاجه جيش الإمداد من مؤن يسعفه أخوه بالحل، إذ يقترح عليه فرض ضريبة «مقدسة» جديدة على العامة، ويتساءل الخليفة عن إمكانية قيام العامة بفتنة يجيبه أخوه وأبشع علائم الازدراء تلوح على وجهه: «عامة بغداد تحدث فتنة! ينقصك يا خليفة المسلمين أن تعرف رعيتك أما أنا فأعرفهم جيدا.. قد يتذمرون، ولكن ما أن يروا وجه حارس حتى يمضغوا تذمرهم ويبلعوه مع ريقهم وفي النهاية يهرولون، لينبشوا الأرض من أجل تسديد الضريبة»... وتضيق الحال بسكان بغداد ويضرب الكساد البلاد ويزداد عدد العاطلين عن العمل ويلجأ الفقراء لتأجير ما يمكن كرامتهم، شرفهم وأجسادهم.. وطرفا الصراع مستمران بنزاعهم دون اهتمام بحال العامة..
وفي غمرة هذا الاضطراب يبرز جابر مملوك الوزير.. ذكي لماح لا تنقصه الحنكة.. غير أنه كمستغلي الأزمات على مر العصور يبحث فيها عن مصلحته الشخصية.. ويرى فرصته للثروة وعلو المراتب، يعلم أن الوزير يحتاج لمن ينقل له رسالة إلى مكان ما وجنود الخليفة يغلقون منافذ المدينة وتلمع في رأسه فكرة جهنمية، فيذهب إلى وزيره ويقترح عليه أن يحلق له شعره ويكتب رسالته على جلد رأس المملوك وينتظر إلى أن ينبت الشعر ثم يخرج من المدينة إلى وجهته، إلى وكر الأفعى إلى قصر أمير العجم ليسلمه الرسالة.. يصل إلى القصر ويسلم الرسالة إلى الملك ويربح.. رأسه المقطوع.. وتربح عاصمة المسلمين جيشا من المغول.. يستنكر الزبائن مكافأة المملوك بعد أن أعجبوا بشخصيته وأنه «ولد ابن زمانه» و«أنه يفهم الحياة». غير أن ونوس يستخدم هذا المديح الذي يكال للمملوك بطريقة أخرى، كأنه يريد أن يقول إن هذا التعامل مع العدو غير مأمون العواقب مهما كان الشخص ذكيا، وكذلك ليرسم لنا صورة للشخص الانتهازي الذي يمكن أن يبرر تعامله مع العدو من أجل مصلحته الشخصية. واجتاحت الجيوش الغازية بغداد، كان يوما مروعا، انتشر الموت في الهواء والليل كان طويلا وثقيلا...
ثم يقول لنا ونوس رسالته ونبوءته: «من ليل بغداد العميق نحدثكم من ليل الموت والجثث نحدثكم.. تقولون فخار يكسر بعضه.. ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا.. لكن إذا عضكم الجوع.. ووجدتم أنفسكم بلا مأوى.. إذا تدحرجت الرؤوس. واستقبلكم الموت في عتبة صبح كئيب.. لا تنسوا أنكم قلتم فخار يكسر بعضه ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا..
أجل الأمر يتعلق بنا. فحياتنا هي التي على المحك.. جاء وقت أن نقول كلماتنا.. فهل نترك للقدر أن يسوقنا أم نفرض عليه إرادتنا؟ وهل سنترك أنفسنا نلاقي مصير عامة بغداد ومازال الحياد السلبي يقتلنا؟
هذه رسالة ونوس.. هذه نبوءته.