رسالة على الغبار
.لم يبق سوى الطحل في فنجان القهوة، كأس الماء جف منذ ساعات، نفاضة السكائر امتلأت، أنظر إلى جدران غرفتي، هناك صورة علقت على الجدار وكسر زجاجها، وفي زاوية الغرفة نسج العنكبوت نسيجاً محكماً، على طاولة المكتب وضعت أصبعي وحركته
وإذ بي أكتب، ومن خلال الغبار المتوضع عليه، اسم ابني -الغائب عني منذ سنين طويلة- جيجي أذكرك دائماً مهما طال البعد بيننا سأراك يوماً، نعم سأراك، لا أخفيك سراً، فقد تعب أبوك بعد أن أرهقته هذه الأيام ولا يملك شيئاً سوى أربعة جدران، ومكتب أجلس عليه لأكتب حصاد يومي المتعب من عبء الحاضر، وروائح البارود وأصوات القذائف. من منا لا يشاهد نشرات الأخبار مراتٍ ومرات، ومن منا لا يرتمي على سريره آخر النهار، ليحلم بيوم يكتب هو بنفسه على صفحات مفكرته مواعيد لقاءاته وجدول أعماله.
آه ياولدي اعذرني إن كنت أكتب بلغة لم أعلمك إياها، وأفكر بعقل تقاسمناه سوياً، أحلم بمستقبل لا أرى منه سوى صورتك، وأنت تقف أمام قبري تتذكر أيام لعبنا وضحكنا وسفرنا، الذي رُسمت لنا طرقاته ورَسمنا نحن أحياناً مساراته. أعود إلى مرارة واقعي لأرى كرسي مكتبي ذا العجلات المحطمة، يتجه نحو سريري كأنها دعوة منه لكتابة تاريخ واقعنا ومآسينا، ها أنا أنهض ملبياً دعوته أجلس عليه وأبدأ كتابة خواطري على سطح مكتبي المغبر. يتحرك أصبعي: من وكيف سيسجل تاريخ سنواتنا هذه؟ أليس من المفروض علينا تدوين هذه الأيام، لا أريد أن تُسجل بالطريقة التي سُجل بها تاريخنا، لا أريد أحرفاً يُتلاعب بها كيفما نشأ، بل أريد صوراً تروي لنا مآسينا، صورة نشاهدها ونقرؤها كيفما كانت، فمنذ بداية أزمتنا نشاهد تقارير إخبارية عن حوادث حصلت وأخبار ينقلها لنا أشخاص يجلسون خلف طاولة... وأحياناً حولها، لا، لا يا جيجي، تعلم أن أباك مجنون لكنه يطالب بلده بأكثر من ذلك، فما المانع أن نصنع فيلماً عن كل حادث تمر به بلدي.
اليوم ينهب مصنع قرب مدينة حلب، وها هو صاحب المصنع يتفاوض مع ناهبيه ساعات وساعات إلى أن يقنعهم بنهب ما يريدون منه، شرط أن يتركوا له جهاز الحاسوب المرتبط بالآلة. وبدوره فهو مستعد أن يدفع مبلغاً قدره 750 ألف ل.س لقاء كل حاسوب، تنقل المكنات إلى تركيا داخل توابيت معلبة، نعم توابيت معلبة، فمن غبائهم لم يدركوا أنهم ينقلون جثث معاملنا دون عقل كانوا قد قبضوا ثمنه 750 ألف ل.س. يا الله ما أذكاك يا عمر (صاحب المعمل). كنت أراك تدفع الملايين لهم ليفككوا معملك، وتتدخل أحياناً لمساعدتهم بتفكيك بعض القطع وحينما خرجوا، قرأت الفاتحة على جثث معملك، واتجهت نحو عقوله (الحواسب) لتمسح عنها الغبار وتنتظر يوم تستطيع أن تجلب به أجساداً أخرى. جيجي ليتني أستطيع أن أصنع هذا فيلماً لنشاهده بعد سنوات عدة ويكون أحد أفلام، تنتمي لمجموعة أعمال تروي لنا تاريخنا. جيجي لنقرأ التاريخ من السينمائيين على طريقتنا، دون دوبلاج أو ترجمة فهذه رسالة أكتبها لك باصبعي على سطح مكتبي المغبر.
جيجي اقترب أصبعي من حافة المكتب وعلي أن أمحو ما كتبت منتظراً يوماً آخر ليملأ الغبار سطحه لأعاود الكتابة.