تاريخ البطالة
تشكل البطالة إحدى المشكلات الرئيسة للمجتمعات الاستهلاكية المتقدمة في عالم اليوم وأحد أكبر مصادر القلق بالنسبة لمواطني البلدان في السواد الأعظم من العالم.
لكن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم بل تضرب جذورها في التاريخ وصولاً إلى فترات مغرقة في القدم. هذا ما يشرحه المؤرخ الفرنسي وأستاذ العلوم السياسية في باريس إيف زوبرمان في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان: «تاريخ البطالة». وتتوزع فصول الكتاب الستة، بين قسمين، يخص الأول منهما «التاريخ الذي صنع البطالة». بينما يحمل الثاني عنوان: «البطالة التي صنعت التاريخ». ويحمل عنوان الفصل الأول السؤال التالي: «هل البطالة هي أقدم مهنة في التاريخ»؟ ثم يبحث في الفصلين التاليين «البطالة في القرون الثالث عشر إلى الخامس عشر». ثم البطالة في القرن السادس عشر حتى الثامن عشر. أما فصول القسم الثاني الثلاثة فتخص «البطالة الحديثة» و«ما بعد الحديثة».
إن المصادر التي يعتمد عليها المؤلف في شروحاته تمتد من عدة مصادر تاريخية قديمة. تدعو إلى العمل ستة أيام، والراحة التامة في اليوم السابع، وحتى آخر الكتابات حداثة. لكن مدلول البطالة كان آنذاك إيجابياً، ولا تزال آثاره موجودة حتى الآن، ولو كان ذلك بصورة معكوسة، حيث يتم النقاش اليوم في الغرب حول مسألة السماح بالعمل، في أيام الأحد، الأمر الذي لا تزال الكنيسة تعترض عليه.
ويشير المؤلف في تأريخه لظاهرة البطالة أنها كانت موجودة في مصر واليونان القديمة. والإشارة أيضاً إلى أن اللغة اليونانية القديمة لم تكن تتضمّن كلمة عمل. وبالتالي كان من العسير التفكير بوجود مفهوم مثل البطالة. ولكن ذلك لم يمنع واقع أن اليونانيين القدماء كانوا يعملون. وكانت أوقات الفراغ الطويلة بالنسبة للفقراء، معادلاً للبطالة.
وينقل المؤلف عن هيزيود في القرن الثامن قبل الميلاد، عن الأعمال والأيام. عندما قال: «المجاعة كانت في الواقع مواكبة للإنسان الكسول. والآلهة والبشر يمقتون أيضاً أولئك الذين يعيشون بلا عمل». بل ويشبه هيزيود من لا يعملون بذكور النحل، عندما يقتاتون بما تُصنعه النحلات العاملات.
وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن أثينا قد عرفت ظاهرة مكافحة العزوف عن العمل والاكتفاء بتمضية أوقات الفراغ «في عصر بيركليس»، أي في القرن الخامس قبل الميلاد.
وكان بيركليس وسولون قد عبّرا عن قلقهما الكبير من تعاظم عدد المتسولين. ويشير المؤلف أن حكام تلك الفترة أقاموا عدداً من «المستوطنات للعاطلين عن العمل» وحيث كانت مصر قد عرفت أيضاً إجراءات شبيهة.
وكان يتم النظر إلى البطالة غالباً حتى بدايات القرن العشرين على أنها خيار إرادي. لكن مع فترة الانحسار الاقتصادي الكبير في أوروبا والولايات المتحدة والمعروفة بفترة الكساد الكبير، زاد عدد العاطلين عن العمل في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي مما خلق مشاكل اجتماعية واقتصادية هي الأكثر مركزية، في البلدان المتقدّمة. واعتباراً من تلك الأزمة الاقتصادية الكبيرة غدا موضوع البطالة أحد العناصر الأساسية في النقاشات الاقتصادية والسياسية في الغرب عموماً.
وتتم الإشارة في هذا السياق أن مؤرخي الاقتصاد يحددون القول إن مسألة البطالة هي اختراع بدأ بالظهور منذ نهايات القرن التاسع عشر. ذلك بالتوازي مع تكوّن الطبقة العاملة في المدن. وفي تلك الفترة غدت الحدود بين العمل وغير العمل نوعاً من القطيعة بين عالمين. ذلك على غرار الفصل على مستوى المكان بين مكان العمل ومكان السكن.
بالإجمال، تقدم تحليلات الكتاب البطالة الحديثة على أنها الشر المطلق في المجتمعات الاستهلاكية المعاصرة. هذا خاصة أن نسبتها تجاوزت الحدود المقبولة في مجتمعات أصبح العمل فيها هو الصيغة الأكثر تعبيراً عن الاندماج الاجتماعي. ويميّز المؤلف بين نموذجين للبطالة، تلك التاريخية الناتجة عن غياب العمل نفسه أصلاً، وتلك الحديثة التي عرفتها المجتمعات الغربية عامة منذ نهايات القرن التاسع عشر والمتعلقة بعدم وجود فرص العمل. وفي هذه الفئة الثانية يجري تصنيف المتشردين والمتسولين.
ويتم التأكيد أن المجتمعات عامة تخشى من العاطلين عن العمل. ذلك على خلفية اعتقاد سائد هو أن الاستسلام لأوقات الفراغ قد يولّد الاضطرابات. هكذا كان الإنجليز قد أشادوا منذ بدايات القرن السابع عشر نوعاً من أماكن العمل التي كانوا يحتجزون فيها أولئك الذين لا يعملون للجوء إلى قسرهم على العمل. والإشارة في هذا الإطار إلى أن الفرنسيين قد أقاموا مستشفيات عامة لم تكن تملك من المستشفيات سوى الاسم حيث كانوا يحتجزون فيما الفقراء ويقومون بتشغيلهم. كانت قاعدة مراقبة الفقراء هي السائدة في أغلب الحالات.
البطالة هي إذاً مشكلة كبرى في الوقت الراهن في أغلب البلدان الغربية المتقدمة. لكن جذورها تذهب بعيداً في التاريخ. هذا ما يشرحه المؤلف وينقل عنه الكاتب الكبير جول فيرن قوله بعد رحلة قام بها إلى الولايات المتحدة عام 1929 أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى، قوله: إن البطالة، ومهما كانت آراؤنا حولها، قديمة جداً في مجتمعاتنا وبأشكال تخفي طبيعتها، فهي لم تزل أبداً.
وفي نهاية رئاسته قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران: «لقد حاولنا كل شيء من أجل مكافحة البطالة». وما يشرحه المؤلف على مدى صفحات كتابه هو أن الإنسانية، ومنذ القدم، حاولت كل شيء من أجل مكافحة «أوقات الفراغ»، ولكن كان الفشل دائماً بالمرصاد.