أسود.. أبيض.. ذهبي
عدسات الكاميرات في كل مكان، الأضواء الخاطفة تحول الليل إلى نهار، إنه الحدث الأعظم الذي ينتظره الملايين حول العالم، مئات الممثلين والفنيين والعاملين في مجال السينما قد اجتمعوا، إنها ليلة حفل توزيع جوائز الأوسكار السنوية في نسختها السادسة والثمانين، بعد أن دأب أكثر من 5000 خبير من أعضاء الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون على توزيع الجوائز المناسبة لمستحقيها من صناع الأفلام الكبار طوال تلك السنين
ها قد جلست الجموع في أماكنها وأخذت مقاطع الأفلام المرشحة بالظهور تباعاً مع التصفيق الحار وصيحات الإعجاب، لكن ظهور بعض المشاهد قد رفع تلك الأصوات إلى حدود جنونية، إنه الفيلم «12 سنة من العبودية»، تسابق الجمهور للوقوف «احتراماً» لهذا العمل «المميز» كما وصفته محطات التلفزة الأمريكية طوال الشهور التي سبقت هذا الحدث، وعلى الرغم من صعوبة الاختيار وكفاءة المتنافسين، حصد هذا الفيلم في النهاية الجائزة الكبرى، أفضل فيلم لهذه السنة، لكن الجميع يعلم بأن هذا الاحتفاء والتقدير لا يتعلق بجودة الفيلم هذه المرة، السبب واضح، إنه يحمل الكلمة السرية في عنوانه: «العبودية».
دعونا نستعرض في هذه المناسبة بعض الآراء حول هذا «الإنجاز» الذي حققه المجتمع الأمريكي الأسود، ولنسأل أحد الأمريكيين السود من ذوي الخبرة في العمل السينمائي، يقول الممثل الأمريكي الشهير: «سامويل إل جاكسون» صاحب التصريحات المثيرة للجدل في تعليقه على هذا العمل: «لم يتعامل هذا الفيلم مع موضوع العبودية، يعتقد البعض أنه فعل، لكنه قد تحاشاها بذكاء».
رد ذكي..
قد يظن البعض هنا بأن على «سامويل» أن يقدم الدعم المطلق لأحد الأفلام الذي ناصرت قضايا إخوته السود، و بالأخص بعد أن تعرض قبل أسابيع قليلة لإهانة عنصرية على الهواء مباشرة في إحدى المقابلات، كان ذلك عندما أخطأ مقدم البرنامج باسمه واستبدله باسم ممثل أسود آخر، لقد كانت غلطة غير مقصودة وقتها، لكنها أظهرت استخفافاً كبيراً من قبل المذيع «الأبيض» بشخصية الممثل الكبير وأعماله، الممثلون السود سواسية لديه، علق «سامويل» الغاضب على المذيع بشراسة وذكاء جعلت المقدم يتلعثم معتذراً، «هناك الكثير من السود المشهورين سواي، صدق ذلك..»، على كل حال وبالعودة إلى تصريحاته الأخيرة، قال الممثل المخضرم: «إن السبب الوحيد الذي رشح فيه هذا الفيلم لاستلام هذه الجائزة هو وجود مخرج بريطاني لهذا العمل، لأن وجوده يعني مقاربة أكثر «أماناً» لهذه المرحلة التاريخية الشائكة».
ويتابع سامويل: «لن يقبل أحد أن ينتج فيلماً أكثر جرأة عن تلك الأيام، وبالأخص إن كان المخرج أسود البشر»، ثم عاد بنا إلى أمثلة ماضية عن أفلام كانت أكثر جدة في تعاملها مع موضوع العنصرية الأمريكية ضد السود، لكنها لم تنل أي نجاح تجاري أو دعم إعلاني، فيلم «محطة فورتفيل» يستعرض مراحل العنصرية الأمريكية من قبل رجال الشرطة ضد السود في أزمان أقرب بكثير إلى أيامنا هذه من فيلم «12 سنة من العبودية»، وهي «أكثر جرأة وشجاعة» على حد تعبيره.
نفاق إعلامي..
يتفق مع هذا الممثل الكثير من نقاد السينما على شبكة الأنترنت، لقد أثار فوز هذا الفيلم العديد من إشارات الاستفهام، يعلم المتابع الجيد بأن هناك الأفلام المنافسة هذه السنة كانت بارعة للغاية، وفي أكثر من مجال، حاز فيلم «Gravity» على سبع جوائز منفصلة وحاز فيلم «Her» على إحدى وعشرين جائزة مستقلة من مهرجانات مختلفة حول العالم ثم حصد جائزة يتيمة وحيدة من جوائز الأوسكار! صعق الكثيرون من سوء الاختيار الفاضح هذا، وبدأ البعض بمراجعة الكتاب الأصلي الذي اقتبس منه «12 سنة من العبودية» قصته الأساسية، عندها تقاطعت الآراء مع ما صرح به «سامويل»، لم تلق مشاهد التعذيب التي وصفت في صفحات الكتاب بالمقاطع الطوال التركيز اللازم على الشاشة، ندم «الرجل الأبيض» تحت الأضواء، العنف «معلب»، كانت نسخة «راقية» عن الكتاب الدموي والفج.
لعبة ألوان..
لم يعد هذا النفاق الإعلامي بجديد، لقد أثار حفيظة العديد من العقلاء، من السود والبيض على حد سواء، لقد رأينا الكثير من مآثر عملية «التبييض» تلك في الشهور الأخيرة، وبالأخص عند وفاة الزعيم الجنوب أفريقي «نيلسون مانديلا»، لقد تحول الفقيد منذ خروجه من زنزانته وعلى الفور إلى أيقونة «يبيض» فيها المستعمر الأبيض وجهه الأسود بوجه مانديلا الأسود، كانت لعبة ألوان مقيتة حولت المناضل إلى سلعة تسويقية بعد أن عصفت المتغيرات العالمية بملامح الاستعمار القديمة الجلفة وبدلتها بملامح ناعمة تعمل تحت مستوى الرصد الاجتماعي المعتاد، كان لابد من اعتذار عالمي عن سنين العبودية تلك، كان الاعتذار للكاميرات، أما العنصرية، فقد بقيت إلى الآن مع الشعارات والصور والقمصان والإعلانات والأفلام.
افتتح حفل توزيع الجوائز هذه السنة بمقدمة مرحة للممثلة الكوميدية الأمريكية «إيلين»، بدأت بإلقاء النكات هنا وهناك وهي تستعرض أسماء الممثلين والأفلام المرشحة، نظرت إلى الجمهور وقالت: «نحن أمام أحد احتمالين، إما أن يفوز فيلم12 سنة من العبودية، الليلة.. وهذا وارد.. أو.. أن نعتبر أنفسنا جميعاً أناساً عنصريين..!!» قهقه الجميع وتعالت الضحكات، كانت مزحة جيدة، اختصرت بها واقع الأمر بذكاء، إنها على حق، لن يهنئأ بال لجنة التحكيم إلا عندما ترى تلك الوجوه السوداء على خشبة المسرح وهي ترفع تماثيل «الأوسكار» الذهبية، عندها فقط.. ستحل المشكلة..