محطات في التحليل الإعلامي
قد يقف أي مشتغلٍ في الصحافة المكتوبة متأملاً الكم الصغير أو الكبير من الإنتاج المكتوب الذي أنجزه، يسأل نفسه: إلى أين أريد أن أصل؟ وهل هناك خط متصلٌ رقيق يصل بين مقالٍ وآخر؟ تزداد حدة هذه التساؤلات زمن الأزمات الحادة واللحظات الانعطافية، وتصبح أعصى على الإجابة
يحاول هذا المقال البحث في بعض «المقولات» والمقاصد التي تم التركيز عليها في السنتين الماضيتين عبر منبر «قاسيون» ضمن مقالات التحليل الإعلامي التي عالجت دور الإعلام في الأزمة السورية، بشكل خاص، وتأثيره في حياة البشر عموماً وفي كل زمن. بغرض إعادة قراءة ذلك النتاج وتشكيل الأساس لتقييم الآتي من الموضوعات في قادم الأيام.
برز «تأثير الإعلام» كقضية شائكة وهامة في ظرف البلاد الحالي، خاصة بعد أن أعلن جميع الأطراف جهاراً أو في السر أن «المعركة إعلامية» في المقام الأول، وانعكس ذلك في أقاويل الناس في الشارع حول أن بعض المسؤولين رفيعي المستوى باتوا يقضون وقتهم في مبنى التلفزيون بدلاً من مكاتبهم ومقرات عملهم!
راجت خلال السنوات الثلاث الماضية بعض الاتجاهات التي منحت وسائل الإعلام قدرات «ماورائية» خارقة تحرّك الناس وتنوّمهم مغناطيسياً، نُظر إلى القنوات الفضائية بوصفها كلية القدرة. في المقابل، وعلى النقيض من ذلك، ارتفعت الأصوات التي حجّمت تأثير وسائل الإعلام وهمشته. وروّج أصحاب هذا الرأي لمقولات من قبيل «الإعلام مرآة» تعكس الواقع دون تدخل.
بين رحى هذين الاتجاهين اللذين فشلا كلاهما في تحليل دور الإعلام في الأزمة تحليلاً واقعياً مادياً، حاولت مقالات التحليل الإعلامي في قاسيون ترك العناوين العريضة والغوص في التفاصيل والجزئيات التي يمكن من خلالها الوقوف على دور الإعلام في تغليب الثانوي على الأساسي، والنتائج على الأسباب.
«تناقضاتٌ ثانويةٌ» في الإعلام أيضاً!
أثبتت السنوات الثلاث الماضية أن هناك «تناقضات ثانوية» بين بعض الأعداء الإعلامين الذين قد يخدمون الأهداف ذاتها في نهاية المطاف، بالرغم من التنوع والتعدد الإعلامي الظاهري. حاول «المايسترو واحد» دفع القراء لتجاوز الحدود الجزئية بين نوع المادة الإعلامية أو اسم القناة التي تبثها، والنظر إلى المنتج الإعلامي ككل واحد متصل لإثبات فكرة غياب الاختلافات الجوهرية في إعلام العولمة وسلطة المال. وناقشت مقالة «إعلام حالة الطوارئ» دور الإعلام الحقيقي في الأزمات ضمن واقع تخلي العديد من أطراف الصراع الإعلامي عن أخلاقيات مهنة الصحافة بحجة الحرب، وسياسات نشر الأكاذيب والمعلومات غير الدقيقة بذريعة غياب فرصة التحقق من المصادر.
العولمة في التفاصيل..
ماتزال قضية العولمة إحدى أكثر القضايا الإعلامية أهمية حتى الآن، ولذلك ركزت مقالة «مجرد ذرات غبار» على مصطلح «الأثر التراكمي» في عمل وسائل الإعلام، وهو التأثير البطيء، طويل الأمد، للأفلام الهوليوودية والأغاني والبرامج الأمريكية الأخرى التي تكرس صورة البطل الأمريكي الأوحد، رسول السلام، وتروج لمقولة «الحلم الأمريكي». وأضاءت «إشعال الهولوكوست كلما خبت نارها» على دور اللوبي ورأس المال الصهيوني في إحياء ذكرى المحرقة. وعالجت «أوباما وسياسة الحقيبة الفارغة» الطريقة التي يتم فيها إنتاج صورة الرئيس الأمريكي وما يتعلق به من أخبار من قبل وسائل الإعلام الأمريكية وفريق العلاقات العامة الخاص به.
الابتزاز العاطفي
يكثر الحديث في أدبيات علوم الاتصال عن «الاستمالات العاطفية» التي تُضَمنها الرسائل الإعلامية بغية التأثير على قناعات الجمهور ودفعه لتبني سلوكيات معينة. قدم ملصق الحرب العالمية الشهير «أبي ماذا فعلت في الحرب العظيمة؟» نموذجاً لهذا النوع من الاستمالات التي تعمد إلى جر الرجال للاشتراك في الحرب بدافع المجد الشخصي والوطني وتجنب العار. ركّز «فن صناعة الضحية» على دور الإعلام في تكريس صورة المواطن السوري بوصفه مهزوماً وضعيفاً ومتألماً، بوصفه ضحيةً. وعالج «عصي الدمع» المحاولات المتكررة للأفلام التسجيلية والتقارير الإعلامية لدفع المشاهد إلى البكاء حزناً على «سورية» بدلاً من تقديم الحجج العقلية والمنطقية التي تجعله يتبنى مواقف متوازنة.
«اللغة» وعاء الفكر..
تشكل قضية تأثير وسائل الإعلام على لغة الجمهور وزرع المصطلحات أو استبدالها بأخرى أحد الحقول الواسعة التي تستهدفها القوى الممتلكة لوسائل الإعلام. قدم «ملاحظات غير هامشية حول الغارة الإسرائيلية» نموذجاً للجهد الذي يبذله العدو الصهيوني في تغير لغة الخطاب العربي نحوه. ودرست «خلف حجارة اللوحة الفسيفسائية» المقاصد غير البريئة لاستعارة الفسيفساء السورية، كنموذج لخطاب المكونات.
تطور الوعي في مواجهة الإعلام
كانت الأزمة السورية حتى الآن بيئةً خصبة للمهتمين بدراسة تأثيرات الإعلام وآليات عمله زمن الحروب والأزمات في العصر الحديث، وبالرغم من أن هذه المرحلة طرحت العديد من الأسئلة الشائكة التي لم يجد بعضها إجابات حتى اللحظة، إلا أن الشيء المؤكد الوحيد الذي يمكن استخلاصه بعد تأمل كل تلك المعارك الإعلامية الضارية، أن وعي الشعوب يتطور في مواجهة وسائل الإعلام وآثارها، وهو القادر على المحاكمة والمقارنة وتقييم الأداء الإعلامي، الأمر الذي أثبته واقع انهيار، وضياع، وتخبط بعض أكبر المؤسسات الإعلامية التي ظنت نفسها قادرة على التحكم بـ«عقول» ومصائر الشعوب!