بالزاوية : انتحار المثقف
ضج الوسط الثقافي السوري، في العقدين الأخيرين بالحديث عن الحداثة، والمجتمع المدني، والنهضة وما إلى ذلك من رؤى ومصطلحات ومفاهيم كانت تبدو للبعض أنها جديدة، وتحمل- فيما تحمل- مشروعاً ما، ربما تعوّض عن حالة «الفوات» الحضاري، و«الكوميديا السوداء» التي تتراءى لنا على مسرح «اللامعقول»السوري..
وبدا البعض من هؤلاء وكأنه تخصص في كسر حلقة «المقدس الديني» بما فيها تناول «الذات الإلهية» و «حياة الرسل والرموز الدينية» وقدمها لنا بوصفها اجتهادات، وفتوحات فكرية «ليبرالية».. يبدو هذا المشهد عادياً بغضّ النظر عن الاتفاق والاختلاف معهم، وقد تُبرر تحت يافطة نزق المثقف، وفكره «النقدي»، ودوره «التنويري» المفترض، على الرغم من أنها خلقت ردود أفعال إذ اصطدمت مباشرة بالثقافة الدينية الشعبية المتوارثة التي تعتبر إحدى مكونات الـ «أنا» الجمعيّة، مما فسح المجال لتيارات التطرف بالاعتياش على ذلك في تعزيز مواقعها، تحت راية الدفاع عن المقدسات..
وجاء اختبار الأزمة، ليكشف عورات نخب المشهد الثقافي، فكما أفصحت البنية السياسة التقليدية الحاكمة والمحكومة عن بؤسها، وكما أكدت البنية الاقتصادية على ترهلها وعجزها، تبين أن «أصحاب الياقات البيضاء» في المشهد الثقافي هم في درك هاويتي العجز والبؤس.. أغلب أصحاب تلك الآراء- واحداً بعد الآخر- وعلى إيقاع واحد، -حتى يبدو كأنه نسق منتظم- انتقل إلى الضفة الأخرى، فاستعاضوا عن «الجدل» المادي، بـ«الدجل الطائفي»، ومن «نقد الفكر الديني» إلى التنظير لـ «صراع طائفي»، وانتقلوا من موقع «الدفاع» عن «حرية الرأي» إلى الرياء، ومن إنكار وجود الله إلى التسبيح بحمد «إسلام البيزنس» في إشارة منهم إلى ما وصفوه بـ« إسلام» تجار دمشق وحلب.
نحن أمام ظاهرة تتجاوز حالة القلق المعرفي والتجربة والفرضية كأدوات ضرورية للتحليل وصياغة الموقف، وتتجاوز الموقف الزئبقي الانتهازي الذي قد يمر به أي مثقف كسمة ملازمة لهذه الشريحة بسبب موقعها من الإنتاج المادي، بل نحن أمام فانتازيا «ثقافية»، وبعبارة أوضح، ظاهرة انتحار «المثقف» التي تتجلى في خيانة رسالة «نظرية المعرفة» من ألفها إلى يائها.