خلف حجارة اللوحة الفسيفسائية
ربما يصعب تحديد اللحظة التاريخية التي تسللت فيها استعارة «الفسيفساء السورية» إلى الأحاديث اليومية للناس وكتابات الأدباء أو السياسيين للتعبير عن تنوع وتلون المجتمع السوري. فالمصطلح الذي بدا شديد الدقة في تصوير بنية المجتمع المتداخل والمتنوع لم يكن حكراً على تيارٍ سياسي دون آخر أو وسيلةٍ إعلامية واحدة، بل كان مصطلحاً مشتركاً تم التوافق عليه باعتباره وصفاً إيجابياً بنّاءً.
بدا المصطلح للعديدين صنيعاً محلياً، أو «ابناً شرعياً» للبيئة السورية التي تزدحم فيها جدران المتاحف باللوحات الفسيفسائية الثمينة متقنة الصنع كإحدى أشهر القطع الأثرية المميزة للبلاد. إلا أن الحقيقية أن توظيف المصطلح واستخدامه ليس «إنتاجاً محلياً» كما يُظن للوهلة الأولى، ويرجع تداوله في الأدبيات السياسية والدراسات الاجتماعية لزمنٍ قديمٍ مضى. على سبيل المثال يدرج استخدام مصطلح «الثقافة الفسيفسائية» المشتتة والمتناثرة كمقابل «للثقافة الإنسانية الشاملة»، وهو مصطلح ارتبط بصورةٍ خاصة بتشكل المجتمع البرجوازي وما نتج عنه من تغيّر في أدوات وعلاقات الإنتاج وانعكاسات ذلك على التركيب الاجتماعي والبنية الفوقية والتطور النوعي لوسائل الإعلام الجماهيرية في تلك المرحلة. وهنا يصور المجتمع كحشد من الأفراد أو «الذرات المتناثرة» التي لا تربط بينها الصلات التقليدية الاجتماعية والأسرية، ما يتقاطع مع رمز الحجارة الفسيفسائية.
إذا ما حاول المرء الوقوف أمام التعبير المجرد للوحة الفسيفسائية، وفككه لعناصره الأساسية، سيجد أن الاختلاف الجوهري الذي يميزها عن فني التصوير أو النحت، تلك الفراغات أو الثغرات التي تفصل كل حجر ملونٍ عن غيره، بحيث لا تنصهر تلك المكونات فعلياً أو تندمج في كلٍ واحد. الحجارة الصغيرة لا تمتلك قيماً مستقلة بذاتها، وتفقد أي معنى أو دلالة خارج إطار اللوحة الكبيرة، لكنها تستمد قيمتها من الصورة التي يتم فيها ترتيب وتجميع الأحجار بدقة حسب اللون. وهو ما قد يشي بخطورة الإسقاط الاجتماعي والسياسي للمصطلح الفني.
بالعودة إلى خصوصية «الفسيفساء السورية» يمكن ملاحظة أن توظيف هذا المصطلح قصد في العديد من الحالات تكريس صورة «اللوحة الدينية المتنوعة» للبلاد. لم يستخدم هذا التعبير يوماً للدلالة على التيارات السياسية المتنوعة أو المتناحرة، أو صراع الطبقات الاجتماعية أو التمايزات الأخرى المرتبطة بالجنس والسن والتعليم والمهنة، بل قصد منه الإشارة «المنمقة» و«المهذبة» إلى التنوع الديني، الطائفي، المذهبي، أو القومي في بعض الحالات. وهو ما يتقاطع مع خطاب «المكونات» الذي يضع الاختلافات الدينية باعتبارها تناقضاً أساسياً بين الأفراد أو الفئات الاجتماعية.
يتم تداول هذا المصطلح بكثرة كنايةً عن غنى البلاد وتنوعها لدى البعض، إلا أن ضخّها وإعادة إنتاجها في وسائل الإعلام وعلى ألسنة السياسيين لا يمكن أن يؤخذ بحسن النية ذاته. لأنه يبتعد عن تكريس المعنى العميق والأشمل للوحدة الوطنية. فمن قال إن السوريين يقبلون اليوم اختصار هويتهم الوطنية العميقة إلى مجرد لوحة ملونة، مفتتة، تجتذب أنظار السياح على جدران «المتحف العالمي»؟!.