ثلاثة .. اثنين.. واحد.. أبدأ الكذب!

ثلاثة .. اثنين.. واحد.. أبدأ الكذب!

فجأة، ستنتقل بنا المشاهد إلى أحد الأقبية المظلمة في النصف الآخر من العالم، هناك رجل تحت التعذيب الشديد هناك، ضرب مبرح وحرمان من النوم ورشق مستمر بالمياه حتى الغرق، لن تربكك ملامح الرجل الشرقية وستستطيع تمييز جنسيته على الفور،

 وتستمر هذه المشاهد لتأخذ حيزاً كبيراً من هذا الفيلم، ربما قد تكون قد سمعت عنه، إنه Zero Dark Thirty، وهو من أحدث الأفلام التي تظهر فيها الاستخبارات المركزية الأمريكية بدور المنقذ البطل، ممجدة أساليب التعذيب الوحشية كضرورة للحفاظ على «الأمن القومي»، ولتمهد لمناخ قبول شعبي لتلك الممارسات اللاإنسانية، وهذا الأمر ليس بالجديد، لكن السنين الأخيرة قد حملت «تكثيفاً» ممنهجاً لهذا الحضور الاستخباراتي في صناعة الأفلام الهوليودية، لم يسبق أن حدث ذلك من قبل، تقدمت هذه الأفلام إلى الواجهة الأمامية لتحصد الجوائز، دون أن يضطر منتجوها إلى اللجوء إلى تغطية دور تلك المؤسسة الأمنية المشبوهة في أحداث قصصها، لا داعي للخجل بعد الآن!

فضائح «استخباراتية»

تعد أفلام Black Hawk Dawn، Zero Dark Thirty ، Argo قلة من مجموعة حديثة من الأعمال السينمائية التي شهدناها في السنوات الأخيرة التي تحمل طابعاً مميزاً بالفعل، حيث لم تشهد السينما الأمريكية هذا العدد من الأفلام «الاستخباراتية» في عام واحد منذ انطلاقة مثل هذا النوع أيام الحرب العالمية الأولى، فالفيلم Argo مثلاً هو باختصار، نشاط دعائي مناهض لإيران جملة وتفصيلاً، تناول فيه المخرج أحداث أزمة الرهائن الأمريكيين عند اندلاع الثورة على حكم الشاه هناك، وصورت مشاهد الفيلم وحشية المتظاهرين الإيرانيين وهم يقومون باحتجاز أولئك الرهائن ومعاناتهم أثناء محاولتهم الهرب من هناك، وتتناسى الحقائق التاريخية التي فضحتها تلك الأزمة، ككشف وثائق «سرية» تبين تورط منظمة LAKAM  الإسرائيلية في التجسس على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وسرقة أسرارها العسكرية لخدمة مصالح الكيان الاسرائيلي، بالإضافة إلى الفضيحة الشهيرة التي أطلقها أحد الناجين من تلك الأحداث، «فرح منصور»، أحد الموظفين الإيرانيين المخلصين لوكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، فقد نشر الرجل، حسب بعض المصادر، وثائق تبين تورط إدارة الرئيس رونالد ريغان في رشوة الإيرانيين الخاطفين لتأجيل إطلاق سراحهم إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1980 لاستثمار هذا الموقف على الوجه الأمثل سياسياً!!. قوبل هذا الموظف بالعداء الشديد واضطر إلى الفرار من الولايات المتحدة الأمريكية بعد شهور من إعلانه هذه الوثائق، تناسى الجميع هذه القصة، وها هو الممثل «بن أفليك» بطل الفيلم Argo ومخرجه يحصل على جائزة «الأوسكار» لأفضل فيلم، مع مفاجأة إضافية، لقد قدمتها له السيدة الأولى «ميشيل أوباما».. باليد!

حصد Argo جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج، في وقت تعاني فيه العلاقات الإيرانية الأمريكية الكثير من المد والجزر المتواصل، تحدث المخرج «بن أفليك» بمديح كبير وثناء غير مسبوق عن وكالة الاستخبارات الأمريكية، لم يخف الرجل حقيقة خضوعه للعديد من التدريبات الميدانية وتواصله الدائم مع بعض مسؤولي تلك الوكالة خدمة لـ«مصداقية» الفيلم، كما حصلت الممثلة «جيسيكا جاستين» على جائزة أفضل ممثلة في دورها في الفيلم Zero dark Thirty، هذا الفيلم الذي يشرعن التعذيب الوحشي المرتبط بسمعة الاستخبارات الأمريكية ويجيزه للانتقام من «أعداء الأمة»، وبالمناسبة، الفيلمان على مستوى عال من الحرفية والأداء، إنهما جذابان بالفعل على الرغم من بشاعة ما يحملون من مضامين، تم استخدام فريق عمل محترف على المقاييس كافة، كما تم استخدام وسائل التقنية الحديثة والمؤثرات الخاصة مما جعل منهما حديث الساعة.

تسريبات ممنهجة..!!

يعود تاريخ هذا الاندماج الفكري بين مؤسسة السينما الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية إلى وقت طويل، فقد تحدث تقرير سري للوكالة في العام 1991 يحمل توقيع رئيسها «روبرت غيتس» آنذاك، عن تشكيل «فرقة عمل» تبحث جدياً في إطلاق بعض أسرار الوكالة إلى العلن وتوظيفها إعلامياً، واستعرض التقرير أسماء مجموعات كبيرة من الصحفيين والمراسلين وأصحاب الشبكات الإعلامية المتعاونين حالياً مع الوكالة، واقترح «تسريباً ممنهجاً» لبعض من تلك الأسرار «تحويل بعض قصص الفشل للوكالة إلى قصص نجاح لها» كما نص التقرير، وبناء عليه تمت دعوة العديد من المخرجين والممثلين لزيارة الوكالة والاطلاع على بعض جوانب عملها، فظهرت سلسة كبيرة من الأفلام التي عملت على تلميع صورة الوكالة بدأت بـ Patriot Games(1992) مروراً بـhe Sum of All Fears (2002) حيث قام رئيس الوكالة شخصياً بمرافقة مخرج الفيلم الأخير هذا «توم كلانسي» في جولة خاصة ومطولة في أروقة الوكالة آنذاك! إلى أن جاء العام 2007 بفضيحة كشفت دور الوكالة وارتباطها الشديد بهوليود، حيث قام أحد الصحفيين بنشر ما قاله الرئيس السابق لمجلس التعاون الأعلى في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «بول كولباو» في خطاب ألقاه في جامعة فرجينيا، إذ تحدث بإسهاب عن العلاقة بين هوليوود والوكالة، وكانت الصاعقة في حديثه حول تفاصيل تصوير الفيلم The Recruit  من بطولة الممثل الشهير «آل باتشينو» والذي يتحدث عن طريقة تجنيد عملاء أمريكيين في الوكالة، فذكر أن وكالة الاستخبارات المركزية قد وظفت أحد عملائها في موقع التصوير تحت مسمى «مستشار» وذلك لـ«تضليل» صناع الفيلم عن الحقيقة المتعلقة بتفاصيل عمليات التجنيد للعملاء الجدد في الوكالة، لكن «بول» سارع بإصدار بيان عاجل ينفي فيه جميع أقواله تلك، وبالأخص كلمة «تضليل» جملة وتفصيلاً!

الغاية تبرر الوسيلة 

يبدو أن مهرجانات جوائز الأفلام الأخيرة قد كرست ما تود وكالة الاستخبارات الأمريكية من والأمريكيين وبقية العالم تصديقه، «الغاية تبرر الوسيلة»، ولا بد من تلميع صورة الأعمال الإجرامية التي تقوم بها هذا الوكالة في العالم باستخدام جميع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وإنفاق ما أمكن من الدولارات في سبيل هذا الغرض، كي تبقى الولايات المتحدة الأمريكية «حامية حمى العالم الحر»، في مواجهة «الشر» في العالم، لكن دماء الحقيقة لوثت أيادي الكثيرين، وقد يأتي يوم لن ينفع معها غسلها بالأضواء بالباهرة وتماثيل الجوائز الذهبية الساحرة!