«أين يقع العراق على الخريطة؟!»

«أين يقع العراق على الخريطة؟!»

بعد ثلاث سنين تقريباً من حرب العراق، وفي ربيع عام 2006، أجرت مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك الأمريكية استطلاعاً للرأي شمل عدداً كبيراً من الشباب الأمريكي بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين من عمرهم، كان السؤال بسيطاً: أين يقع العراق على الخريطة؟ وكانت النتيجة مثيرة للسخرية آنذاك، وأصبحت حديث الإعلام الأمريكي والعالمي، 63 بالمائة من الشباب لم يستطع تحديد موقع الدولة التي تمحورت حولها أخبار العالم أجمع آنذاك!! لا بل فشل نصفهم تقريباً في تحديد موقع ولاية نيويورك الأمريكية أو حتى ولاية لويزيانا الرازحة تحت وطأة إعصار كاترينا الشهير،

 قد يبدو الأمر كنوع من الضعف الأكاديمي بما يخص علوم الجغرافيا، لكن الأمر تعدى ذلك ليشمل علوم التاريخ الحديث، ولا لوم للمدارس هنا في هذا الأمر، إنها السياسة الإعلامية الأمريكية التي تتغنى باستقلاليتها وحريتها والراغبة اليوم وبكل صفاقة مد تجربتها هذه حول العالم.

فشل الأمريكيون في تحديد موقع إحدى الدول التي لم تغفل عنها عيون قادتهم وعدسات طائراتهم المسيرة وأقمارهم الصناعية، وها هي سنوات ثمان قد مرت تقريباً على امتحان الجغرافيا هذا، و مازال الأمريكيون ضحية مؤسساتهم الإعلامية التي اعتادت قولبة الأخبار وحولت الجمهور المتابع إلى صيصان في مدجنة كبيرة لا علاقة لهم بالأخبار الحقيقية وخلاصة الأحداث المؤثرة في مصير العالم، فقد حملت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تغييراً كبيراً في هذا المجال، وظهرت في العام المنصرم نقلة نوعية في كيفية التعاطي الإعلامي الأمريكي بما يتعلق بموضوع العراق الشائك، فترافق إعلان الرئيس الأمريكي عن خروج الجنود الأمريكيين من هناك «مرفوعي الرأس» مع ظهور نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي «انتوني بلينكن» على الشاشات وإعلانه بأن «العراق لم يكن أقل عنفاً وأكثر ازدهاراً وديمقراطية من أي وقت آخر في» حسب قوله «التاريخ المعاصر لهذه البلاد»، وأرفق ذلك بمقالة مميزة كتبها بنفسه تحت عنوان «الصباح في بلاد الرافدين» حملت ذات النظرة التفاؤلية البعيدة كل البعد عن الحقيقة.

«لا تنظر إلى الخلف»..

كان شعار الإدارة الأمريكية عند تولي أوباما السلطة واضحاً في الإعلام كما في السياسة، «لا تنظر إلى الخلف»، كانت هذه سياسة بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق عند توليه السلطة أيضاً، فقد عملت ماكينته الإعلامية على دفن أخطاء سلفه جورج بوش الأب عن طريق إهمال التهم التي وجهت له بتسليح «صدام حسين» صديق أمريكا آنذاك.

كان الشعب الأمريكي وقتها غائباً عن كل هذه الأحداث، لم يعلم الكثيرون أن هناك بالتهم التي وجهت لجورج بوش الأب. «لا بد من النظر إلى الامام» ردد الجميع هذه العبارة كالببغاوات وهاهم يرددونها اليوم مع الرئيس الأمريكي الحالي، لن يتحمل أي منهم وزر هذه الأخطاء الشنيعة.

إنه «الإنكار»، السلاح الأمضى في السياسة الإعلامية الأمريكية، يترافق ذلك اليوم بعودة «القاعدة» في العراق لتحتل مقدمة نشرات الأخبار. لكن الإعلام الأمريكي هناك غائب، أقفلت جميع المكاتب الإعلامية أبوابها داخل العراق تدريجياً مع تولي إدارة أوباما السلطة، كانت قناة الـCNN  الأمريكية الشهيرة آخر من بقي على قدميه هناك، إلى أن أقفلت مكتبها هناك، لا يعلم معظم الأمريكيين بذلك أيضاً، كما أنهم لا يعلمون أن العام 2013 قد سجل أعلى نسبة ضحايا من العراقيين بسبب العمليات الانتحارية منذ 2007، ما زالت الأخبار من العراق تتوارد تباعاً لكن بأي هيئة؟

الإنكار وبعبع «القاعدة»..

«القاعدة» في العراق، هي اليوم حديث الساعة، «استولت القاعدة على الفالوجة والرمادي»، هذه إحدى العناوين، إنها ليست القاعدة بذاتها، إنها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» لكن لا فرق، ولا داعي للتدقيق، لكلمة «القاعدة» وقع أقوى، ما زال الشيطان الأكبر حاضراً ولابد من بقاء شبح بن لادن ذريعة لأي عمل مستقبلي، يتناسى الأمريكيون تاريخ هذا الفصيل المتطرف، تضيع تفاصيل تاريخه ونشأته وداعميه في النشرات الإخبارية، يركز الأمريكيون اليوم على «شعور الأسى» الذي يعاني منه مصابو حرب العراق والعائدون منها عند سماعهم أخبار استيلاء «القاعدة» على الفالوجة والرمادي، تلك المناطق التي حاربوا فيها، لا داعي للحديث عن أصحاب الأرض الحقيقيين، لا داعي لذكر ضحايا مغامرات الولايات المتحدة المجنونة هناك، لا داعي للحديث عن جحيم الحرب المذهبية التي كرستها السياسات الأمريكية هناك، عن السموم التي تركتها آلاتهم الحربية في النفوس والعقول والأجساد، تكرس التقارير وقتها اليوم للجنود العائدين و «إنجازاتهم».

«في حربنا في العراق حكمة لن نراها اليوم، سنتركها للمؤرخين» هكذا قال «بلينكن» دفاعاً عن الحرب الأمريكية في العراق، ومن حسن حظه وحظ المؤسسة الإعلامية التي يمثلها أن الأمريكيين ضعيفون في التاريخ كضعفهم في الجغرافيا، وبالمناسبة، هم لم يستطيعوا تحديد موقع «بنغازي» على الخريطة، على الرغم من إنها رقعة أخرى ما تزال تعاني من صراعات أججتها الإمبريالية الأمريكية في ليبيا، على كل حال، ومهما بحث الأمريكيون على الخرائط ، لن يجدوا على خارطة بلدان منطقتنا سوى «الإنكار».