القطط الضامرة

القطط الضامرة

بعد أن اتبعتُ نهجاً جديداً في حياتي مفاده: «مقاطعة وسائل النقل المأجورة ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا..» لسببين؛ أولهما زيادة أجور النقل بسبب ارتفاع سعر المازوت، وغياب العدالة في تسعيرها. وثانيهما أنني أُصبتُ بالكولّسترول اللعين والشحوم الثلاثية البغيضة، بالرغم من امتناعي – قسراً - عن تناول البيض واللحوم وكل مشتقات الحليب.. واكتفيتً بأرخص أنواع الخضروات أشتريها من أتعس بائع في الحيّ

وقد نصحني الأطباء بضرورة ممارسة رياضة المشي يومياً ولمدة ساعة على الأقلّ. محذّرين: «وإلا؛ فإذا اكتفينا في المرة السابقة لدى إصابتك باحتشاء في العضلة القلبية بتركيب شبكة في شرايينك، فإننا في المرة القادمة قد نضطر لإجراء عملية القلب المفتوح.. وقد أُعذر من أنذَر» وللأمانة فقد نفّذت تحذيراتهم ببيروقراطية عجيبة. أتمشّى يومياً ولو في البيت إذا لم تسمح لي الظروف الخروج منه. وقررتُ الذهاب إلى عملي صباحاً سيراً على الأقدام. حيث يستغرق معي هذا المشوار حوالي نصف ساعة ذهاباً ومثلها إياباً.
وبسبب نزقي ونفوري من الروتين، فإنني أختار كل يوم طريقاً جديداً «فكلّ الدروب تؤدّي إلى مقرّ العمل».
وذات صباح قرّرتُ اختيار أبعد طريق يوصلني إلى مبتغاي. فقد كان لديّ متسع من الوقت بعد تغيير التوقيت الصيفي وتأخير الساعة «60 دقيقة». قلت في نفسي منذ بداية الأحداث واندلاع المظاهرات لم أزرْ تلك المناطق التي كانت مرتعاً لها.. ومن المفيد الاطلاع على ظروفها بعد كل هذه الأشهر من الاشتباكات الدامية..
عرّجتُ إلى أحد أفقر الأحياء في محافظتي لأرى ماذا فعلت الحكومة من إنجازات لإرضاء هذا الشعب الغاضب؟ كان الوقت باكراً والجوُّ يميل إلى البرودة.. لدى بلوغي الحيّ بدا هادئاً تماماً، ربما بسبب خلوّه من المارة؛ وقفتُ متأملاً مراقباً كل ما يقع تحت بصري. أول ما لفت انتباهي حواجز الجيش على بوابات الحيّ. مررت بأحد الحواجز وحيّيت العناصر المناوبين بتحية الصباح، كان ردّهم جميلاً ولم يسألني أيّ منهم عن بطاقتي الشخصية ربما بسبب «شيبتي».
لدى توغّلي أكثر في أزقّته، وابتعادي عن رقابة عناصر الحاجز، تأمّلتُ الجدران العتيقة للحيّ، والعبارات المكتوبة بخطٍّ رديء متهدّل والمشطوبة بقسوة. دقّقت النظر بحبال الغسيل، أغلبها معلّق عليها ثياب لنساء وأطفال! السؤال الذي قفز إلى ذهني مباشرةً: «الكبار أين هم؟ هل هم في غياهب المعتقلات؟ أم التحق بعضهم بالمسلحين؟ أم أن الوقت ما زال مبكراً ولم يستيقظوا بعد؟». الشوارع على حالها من البؤس، بل يمكنني القول إنها ازدادت بؤساً قياساً بآخر مرة زرتها قبيل الأحداث. الحفر في كل مكان والكثير من أكياس النايلون الفارغة وبقايا الأشياء الخفيفة تحركها الرياح وتنقلها من مكانٍ إلى آخر. السليم من مصابيح أعمدة الكهرباء ما زال مضاء! تُرى، هل الغاية رصد أيّة حركة في هذا الحيّ آناء الليل وأطراف النهار؟! أم بسبب إهمال شركة الكهرباء؟! لاحظتُ حاويات الزبالة شبه فارغة. وبعض القطط الضامرة تسرح ببطء وقد أنهكها الجوع. لا تقوى على اصطياد فأرة فيما لو وُجِدَت. وهذه القطط ليست مغرية البتّة لاعتمادها «وجبة» بعد صدور فتاوى تجيز التهامها في ظلّ هذا الحصار الجائر. فهذه القطط لا تملك سوى جلدها وعظمها. عندها تذكّرتُ بحرقة قول أحد المفكرين: «لمعرفة تقدّم ورقيّ أيّ شعب من الشعوب، عليك بالنظر إلى حقوق المرأة لدى هذا الشعب». قلت في سرّي اسمح لي أيها المفكر بالإضافة:
«ولمعرفة سعادة أيّ حيّ من الأحياء، عليك بالنظر إلى قططه».