أميركا.. «المجنونة» !
«أنا أملك جميع الخصائص التي يتمتع بها أي كائن بشري: الدم.. اللحم.. الجلد.. الشعر.. لكني لا أمتلك القدرة على إظهار أي نوع من أنواع المشاعر.. عدا الجشع والقرف.. شيء فظيع يعتمل في داخلي لا أدري ما هو.. لقد طغى تعطشي الليلي للدماء على ساعات نهاري.. أشعر بأنني قاتل على حافة الانزلاق إلى الجنون المطلق.. أعتقد بأن قناع التعقل سيسقط عن وجهي في أي لحظة..»
• باتريك بايتمان
دخلت هذه الكلمات الخالدة تاريخ الحركة الفكرية الأمريكية من أوسع أبوابها، واستطاعت عن طريق «كتاب» و«فيلم» لاحق أن تثير موجة فكرية، أنعشت الأبصار والبصائر، إنها الكلمات التي يلخص بها بطل رواية الكاتب «بيرت إيستون إيليس» والمعنونة بـ«المهووس الأمريكي» التناقض المرعب الذي يعاني منه المجتمع الأمريكي. منذ صدور الطبعة الأولى من الكتاب قبل ثلاثة عقود، يأتي هذا الكتاب ليكمل ما انتهى إليه «إيليس» من نقد لاذع للرأسمالية و جشعها المطلق في كتابه الأول «أقل من الصفر»، ليعمل على تشخيص كل القيم والخصائص التي تعرّف الفكر الرأسمالي في إنسان واحد، «باتريك بايتمان».
فـ «باتريك» تنافسي إلى أبعد الحدود، وهي صفة ملازمة للرأسمالية، لكن قيام الكاتب بمتابعة مفاعيل هذه الصفة على بطل الرواية حتى النهاية يثير الإعجاب بالفعل، ويسمح للقارئ بالخوض في مراحل نضوج الفكر الرأسمالي عن طريق مشاهدة الغضب والجشع النامي في ذات «باتريك» حتى وصوله إلى حالة انفجارية لن يستطيع التعامل معها.
وهنا لا بد من الحديث عن أحد المشاهد التي دخلت تاريخ السينما الأمريكية بعد ظهور الفيلم في العام 2000، حيث يظهر «باتريك» مع مجموعة من أصدقائه وهم يتحدثون عن يوميات العمل، ليَخرج أحد أصدقائه بطاقة العمل الجديدة الخاصة به من جيبه، ويبدأ بالتباهي بجودة الورق ونوعية الألوان ونعومة الملمس وبقية المزايا «الفريدة» التي تتمتع بها بطاقته أمام أقرانه، والذين بدأوا بمقارنة مزايا بطاقتهم الشخصية مع هذه البطاقة الرائعة التي تلتمع أمام أعينهم والحسرة تأكلهم، لكن «باتريك» قرر ببساطة أن الحل الوحيد للتفوق في هذه المنافسة هو قتل زميله بدم بارد!
وهذا ما فعل، فقد دعاه إلى منزله، وبدأ يحدثه عن حبه للموسيقى الحديثة وهو يستعرض أمامه العديد من الأسطوانات، إلى أن استل «فأساً»!! وفجّ به رأسه، بوحشية غير مسبوقة، وهو لا يزال يستمع إلى الأغنية الصاخبة، في دلالة واضحة على التناقض الذي تتسم به الرأسمالية الأمريكية، عندما تقدم بشكل دائم صورة مشرقة عن نفسها عن طريق القنوات الإعلامية والدعائية وتعمل على تسويق مفاهيم العدالة والحرية لكنها في الحقيقة وحش جشع متعطش للدماء، وهذا ما قصد به الكاتب أيضاً عندما صور «باتريك» كموظف مثالي، حسن المنظر، جميل الهندام، مهذب، طموح، لكنه في الحقيقة قاتل مهووس مجنون.
يبدو الفيلم مناسباً الآن وأكثر من أي وقت مضى في وصف الحالة المزرية التي وصلت إليها اليوم الرأسمالية العالمية المحكومة بالجشع، فهو يضع أمام المشاهدين الحقيقة الواضحة، وجهان للحكومة الأمريكية: وجه علني مشرق يعلن انتماءه لشعارات العدالة والحرية، ووجه خفي أناني وحشي غير أخلاقي، يخوض الكتاب والفيلم في سبر أغواره. الوجه الذي يدفع الحكومات الأمريكية إلى شن الحروب من أجل المال، وقمع الحريات، وتشويه المجتمعات، والقضاء على اليد العاملة، واستغلال المرضى والمحتاجين، الوجه الذي حول الولايات المتحدة الأمريكية إلى آلة استهلاكية شرهة لن تتوقف عن العدوان والتدمير إلا بعد فنائها.