البحث عن «الحقيقة»

البحث عن «الحقيقة»

في الوقائع السورية.. هناك دائماً الجديد .. تقدم هنا وتعثر هناك يتسابق الجميع في الحديث عنه والتحليل الدائم لأسبابه ونتائجه في «سيرك» إعلامي يحاول عبثاً أن يلبي «رغبات» الجمهور وأهواءه، تارة بالانحياز التام لأحد الأطراف وتارة عن طريق «حيادية» زائفة تميّع المواقف ولا تفضي إلى أي مفيد، لينتهي المشاهد العادي إلى التسمر مرغماً يبحث عبثاً عن الحقيقة الصافية..!

يعتمد الإعلام الناجح، خاصة في عصر الفضائيات والإنترنت والاتصالات الفورية، على المتابعة السريعة لآخر خبر في أقصى الكرة الأرضية. وهو ما قد يوحي لمستهلك وسائل الإعلام الغربية تلك بأنه يحيط بآخر التطورات، أو أنه يستطيع الإحاطة بها لو تابعها بدأب.  وتزوغ هنا حقيقة تحيز وسائل الإعلام، بين إبرازها لهذا الخبر، وإغفالها لذاك، وتناولها المجتزأ عمداً لحدثٍ جلل، أو تغطيتها التفصيلية المملة على مدى أسابيع لحدث سخيف بغية لفت الأنظار عما هو أهم وأشمل.
قد لا تبدو هذه الحقائق غريبة الآن عنا نحن السوريين، فقد نال معظمنا حصته من التبعات السلبية للإعلام المشوه الموجه، بعد أن ترك آثاره على مفاصل الاقتتال الداخلي في البلاد ولم يعد من الممكن تجاهل سطوته على البعض. وتكشفت مع مرور الأيام ارتباطات تلك المؤسسات الإعلامية بأجندات خارجية مهمتها تعزيز الشقاقات وإثارة الفتن.
لكن من المثير للاهتمام متابعة الحمى الإعلامية المرتكزة في العواصم الكبرى وحول هذه المواضيع بالذات، وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني اليوم من أزمات متوالية تعصف بها من كل جانب ومن أكثر من اتجاه، أزمات تعكس بالإضافة إلى تراجع النظام الرأسمالي، نتائج الخيارات الخاطئة التي اتخذتها الإدارات المتتابعة والتي ذهبت بتلك البلاد إلى منحدر زلق يتجه يوماً بعد يوم إلى درك عميق لا مخرج منه، تلك البلاد المنهمكة في حرب مشتعلة في مواجهة الأصوات المنادية بتغيير عميق في سياساتها الاقتصادية- الاجتماعية، وبإعادة النظر في عقليتها الإمبريالية التي ما تزال تورث معضلات جديدة تزامنت مع الأزمة السورية-العالمية والتغير المترقب في ميزان القوى الدولي، تلك المواجهة التي يشكل السلاح الإعلامي فيها رأس الحربة.
صراع الديكة..
يتابع الأمريكيون اليوم السجال الدائر منذ فترة حول قانون الرعاية الصحية الجديد قيد الإقرار والمعروف باسم «Obama Care»، وهنا يمكن للمشاهد البسيط ملاحظة الاحتدام اليومي على شاشات التلفزة الأمريكية باختلاف مشاربها، لكن المثير للاهتمام هو توقيت طرح هذا المشروع، فقد تم الإعلان عنه بعد خيبة الأمل الأمريكية سياسياً في الموضوع السوري، وسعير فضائيات التيارات الناشطة حزبياً خارج الإدارة الأمريكية الحالية على الرئيس أوباما شخصياً و «النواح» و «القدح والذم» المبتذل الموجه إليه وكل أركان إدارته.. فكان ظهور المشروع مناسباً لإزاحة النظر عن هذه الحالة المزرية، وإبقاء حالة التوتر الإعلامي لدى المشاهد الأمريكي قائمة لكن حول موضوع مخالف تماماً.. الموضوع الذي يمس جيوب الكثير من أعضاء الكونغرس الأمريكي كونهم المستفيد الأكبر من ثغرات مشروع الرعاية الصحية الحالي..!!
قد يبدو المشروع المطروح تصحيحاً لواقع الرعاية الصحية الناهب لجيوب الأمريكيين والضارب بعرض الحائط لاحتياجاتهم الصحية الحقيقية،  لكن هذا كله لا يهم.. المهم الآن خلط الأوراق الأمريكية في الداخل عن طريق زوبعة إعلامية جديدة تشد أنظار المتابع الأمريكي نحو مواضيع أقل أهمية.. ولا مانع من بث «صراع ديكة» يومي على تلك الشاشات لا يختلف كثيراً عما تقوم به بعض الفضائيات العربية..
 فقد قام سيناتور أمريكي مثلاً بإلقاء خطاب استغرق 21 ساعة متواصلة أمام الكونغرس، وصف فيه المشروع الجديد بالمشروع «النازي!!» ولمح إلى وجه الشبه بين أوباما وهتلر..! وليبدأ بعدها إعصار إعلامي متعمد يستبعد الأمريكيين عبر الشاشات، ويخرجهم من الساحات إلى غرف المعيشة في المنازل.
لرأس المال دور كبير في توجيه الحياة السياسية، من خلال تأثيره على العلاقات العامة والدعاية في السياسة. وتصبح الحياة السياسية في هكذا واقع عملية صورية تسوقها أهواء المتنفذين بعيداً عن المصلحة الحقيقية للشعوب، ويسمح بإنتاج رأي عام موال للإمبريالية، والنخبة الحاكمة وتوجهاتها، من وسائل إعلام عامة وخاصة تعمل يومياً على تشويه الحقائق واجتزاء الصور غير آبهة بالمسكين الذي ما زال يضغط بحماسة على أزرار جهاز التحكم.