المرآة

المرآة

في حالات الضجر, ومنذ حداثة سنّي, كنت أستخدم طريقة تخلّصني نسبياً من تلك الحالات, حيث أقف أمام المرآة خلسةً عن أهلي وأقوم بتنفيذ مجموعة من الحركات, سواء بكامل جسدي أو بأجزاءٍ منه وخاصةً وجهي. كأن أفتح فمي على مصراعيه غامزاً بإحدى عينيّ محركاً أنفي أو أذني بواسطة شدّ وإرخاء العضلات الخاصة بهما. أو أصعّر خدّي رافعاً أحد الحاجبين ومسدلاً الآخر بالتناوب

أرقص كالبلهاء والمعتوهينً, أقلّد غريبي الأطوار, أتظاهر بالغضب والعبوس, وأنتقل بسرعة البرق إلى الابتسام والضحك. أحرّك لساني بطريقة أفعوانية بكل الاتجاهات وأهزّه كذيل كلب سعيد. أكشّر بكل الوضعيات التي ابتدعها الجنس البشري, وأنا في غاية المتعة كوني أمارس حريتي دون أن أؤذي أحداً. متوخّياً ألا يراني بني آدم. لما لهذه الحركات من آثار مخجلة في حال ضبطها, كونها غير منطقية وتتخطى المألوف. وكانت شقيقتي الكبرى تضبطني أحياناً متلبساً بهذه الحركات المجنونة, فتبتسم محذّرةً حسب اعتقاداتها الخرافية, بأن استمرار وقوفي أمام المرآة سيفقدني عقلي كما حصل لكثيرين غيري. ولم أكن أقتنع بكل هذه التحذيرات مردداً أمامها لازمتي: «أنا حرّ, ولا أؤذي أحداً». وأعاود الكرّة كلما سنحت لي الظروف ذلك.
وكبرتُ وتزوجتُ ورزقتُ بأولاد.. وما زلت أمارس هذه الهواية بالرغم من تملّح ما بقي من شعر على جوانب الرأس, لتستلم زوجتي مهمة تحذيري من مغبّة القيام بهذه الحركات فتوبّخني بعبارات مثل: «يبدو أنك لن تكبر أبداً.. الله يثبّت عليك العقل على الأقلّ.. تريّث بجنونك إلى أن تتزوج ابنتك يا رجل.. حتى لا يقول الناس بأنها قد ترث منك هذه السوسة!».
مؤخراً تم تركيب مصعد في البناية التي أقطنها. ولما كان بيتي في الطابق الأخير, فإن فترة مكوثي في كابين المصعد ما بين الدخول إليه والخروج منه يستغرق حوالي الدقيقتين. وهذه المدة الزمنية كافية للقيام بممارسة «جنوني» عندما أكون وحيداً, ولا سيما أن مرآة المصعد كبيرة تحتل جداراً كاملاً وتلبّي رغبتي بالقيام بتلك الحركات الممتعة.
وتتالت الأيام والأسابيع واستبدّت بي عادة القيام بالحركات تلك وتعوّدتُ عليها وتآلفت معها. أمارس هوايتي يومياً بحركات جديدة مبتكرة لا يمكن أن تخطر على بال. وأقلعت تدريجياً عن الوقوف أمام مرآة البيت, وتخلّصتُ من تعليقات زوجتي ومن ابتسامات ابنتي التي كانت تضع كفها على فمها وتهرع إلى أمها لتخبرها بما ضبطته, ويتبادلان معاً التعليقات الساخرة بشأني.
أعجبتني الحالة وصرت من مدمني ركوب المصعد, أتذرّع بأسبابٍ شتى؛ كحاجتنا إلى شراء بعض الأغراض من الدكان, ضرورة استقبال الضيوف عند باب المصعد السفلي, النزول مع الضيوف بعد انتهاء الزيارة لتلافي الحرج في حال تعطّل المصعد بهم..
إلا أن استغراقي بالقيام بتلك الحركات وتنوعها والإضافات اليومية التي ابتدعها, جعلني أنسى نفسي أحياناً عندما يقف المصعد, سواء بحالة الصعود أو الهبوط, حيث يفتح الباب تلقائياً وأنا مستغرقٌ بتنفيذ تلك الحركات.. فأحمد ربّي بأنه لم يرني أحدٌ.
أصلح هندامي وأتهيّأ للخروج من المصعد وأنا بسعادة لص حصل على مراده دون أن يلفت إليه انتباه أحد. أدخل إلى البيت منشرح الصدر هنيئاً مبتسماً, أو أتوجّه إلى الشارع وأنا بحالة من التفاؤل والغبطة والاعتزاز وكأنني أحرزت نصراً عظيماً. إذ ليس أجمل من أن تمارس حريتك دون أن ينالك عقابٌ أو تتسبّب بأذيّة أحد.
ويجيء موعد الذهاب إلى حلاق الحارة, صحيح أنني لا أزوره إلا مرة كل ثلاثة أشهر بسبب العدد المحدود من الشعر على رأسي.. ولكن لا مناص من الزيارة لتشذيب وتهذيب تلك الشعرات.
وفي زيارتي الأخيرة له, وما إن رأيت نفسي في المرآة لدى جلوسي على الكرسي, حتى نسيتُ حالي تماماً وبدأت القيام بتلك الحركات بشكلٍ عفوي. تطلّع الحلاق صوبي محدقاً وقد اعترته مشاعر الدهشة والاستغراب والخوف معاً, وسألني بصوتٍ راعشٍ بعد أن حوقل: «أستاذ! كيفك؟» لم أنتبه لسؤاله وتابعت نبش مخزوني من تلك الحركات.
فرش على كامل جسمي الغطاء الخاص بالحلاقة وهو بمنتهى الذهول وعدم التصديق, وأحاط رقبتي بمنشفة وبدأ يرشّ بعض الماء البارد على الشعرات القليلة إيذاناً بقصّها. أيقظني رذاذ الماء وانتبهتُ إلى حالتي وحاولتُ سريعاً العودة إلى طبيعتي الرزينة الوقورة..
خاطبني الحلاق بحرج وهو العليم بتاريخي السياسي:
«أستاذ! هل زرت مؤخراً أحد الفروع الأمنية؟».
أجبته بكبرياء وزهو على الفور:
«لا.. منذ سنة لم يستدعني أيٌّ منها.. ثم لمَ هذا السؤال؟»
أجاب متلعثماً وبصوتٍ مهموم: «لا.. ولا شي.. فقط مجرد سؤال..»
وبيدٍ مرتجفة طفق بعمله يدمدم بمواء: «يا ربّ سترك.. الله يثبّت علينا العقل والدين ويبعدنا عن أولاد الحرام..»