قليلٌ من الضيق فحسب
في دمشق أجلس مرتاحةً على كرسيٍ أمام شبّاك مفتوح وأفكّر بأن الحياة هنا ما تزال ممكنة، ما زلت أملك كرسياً وشبّاكاً وغرفة نومٍ، ما زلت أشرب القهوة كل صباح. الحياة تبدو جيدةً طالما أنني لا أفكر كثيراً بمعنى الحياة وغايتها، ولا أملك حيواتٍ أخرى كي أقارن هذه بتلك.
لا يسعني الشكوى ولا أرغب حتى في ذلك، جلّ ما في الأمر أنني أشعر في أيامٍ محددةٍ فقط بنفاد الصبر. أمرُّ بمللٍ على صورٍ لأصدقاء مسافرين على الفيسبوك: فتاةٌ ترتدي فستاناً صيفيّاً ملوناً، وتأخذُ صورةً أمام نصبٍ تاريخي في إحدى ساحات أوروبا. شابٌ يرتدي حلةً رسمية ويضع ربطة عنقٍ ضمن صورةً تذكارية مع كتلةٍ بشريةٍ من الغرباء، يبدو أنه يتدبّر أمره جيداً في الاندماج ضمن بلادٍ جديدة، بحيث يصعب عليّ تذكره يعبر ناصية الشارع المجاور لمنزلي كما اعتاد دوماً. ليس أنني أشعر بالغيرة. أو ربما نعم، قليلاً على أية حال، هو مجرد ضيقٍ عابر فحسب، سأتجاوزه بعد عدة أيام لأستطيع الابتسام عند رؤية صورةٍ جديدة، وأعترف بموضوعيةٍ أن الفتاة تبدو جميلةً في الصورة. سأكون أكثر إصغاءً لصديقٍ يحدثني عن رحلةٍ في القطار أو بحيرةٍ يلفها الضباب.. سأحاول أن أتخيل كيف يمكن للحياة أن تمشي صاخبةً ملونةً في مكانٍ آخر، سيحاول ذهني استذكار صور القطارات والمقاهي والبحيرات كما لو أنني طفل يكتشف اللغة للمرة الأولى، ويعيد تعريف الدلالات.
ملّ من ظلّوا «على قيد البلد» الحديث عن السفر وسهرات الوداع والمساعدة في توضيب الحقائب ومشاعر الفقد والترك والغيرة والخوف والشوق. و تمنى المسافرون لو أنهم ملّوا السفر، تاقوا لبضع دقائقٍ هنا، وللغرور الخفي بأنهم ينتمون إلى «جماعة الداخل»، وللشكوى والتململ من انقطاع الكهرباء والغاز وخطر الموت وأثمان الحرب الأخرى التي تبدو أحياناً بخسة أمام هذا الشعورٍ القاتل بالذنب والأمان.
ملّ الطرفان تبادل الملامة والغيرة والشتائم الخفية أو العلنية، وتاقوا لبلادٍ لا تجعل الأمر معقداً هكذا!
أفكر أحياناً: ماذا يعني الانتماء لبلادٍ حقاً؟ أتظل البلادُ بلاداً إن فقدت سكّانها؟ أليست بحاجة لأبطالٍ كي يؤدوا مشاهد الحياة الطبيعية أو لقطات الحرب؟ من سيكنس الشوارع ويشم رائحة الشتاء الأول إن ذهب الجميع؟ من سيخلق أزمة المواصلات وطوابير الخبز؟ من سيُقتل؟ أو يتدبّر أمره في البقاء على قيد الحياة؟ من سيحصي العصافير والقذائف؟ من سيجلس أمام شباكٍ مفتوحٍ معترفاً بأنه يشعر بالقليل من الضيق فحسب..؟