ولنا خطنا الأحمر
كيف يمكن للخطاب الأمريكي إحتواء وتبرير هذا التناقض بين الترويج لفلسفة الانفتاح ومركزة الثروة؟ أو الترويج للإنغلاق الشديد عند الحديث عن الأمن الأمريكي وتضخيم الشعور بالاستهداف والخطر
إذا ما قرر رجلٌ من قبيلةٍ ما في إحدى الغابات الإفريقية النائية إشعال نارٍ أمام خيمته ذات صباح، يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تشن حرباً ضد ذلك المسكين بحجة ارتكابه فعلاً «شنيعاً» يهدد أمنها القومي وسلامة مواطنيها الذين يعملون في مكاتب ضيقة أو يتمددون على أريكة كبيرة في إحدى الشقق التي تشغل طابقاً مرتفعاً من ناطحة سحاب..!! لا حدود للمخاطر التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، لا يمكن التنبّؤ بها أو حصرها فكل شيء قابل لأن يصبح «مقلقاً» و«خطيراً» و«متجاوزاً للخطوط الحمر».
وما أن يُحدد العدو ويُتخذ القرار بالحرب، حتى تبدأ الآلة الإعلامية الضخمة بالعمل لإيقاظ أولئك النائمين على الأرائك من الخطر المتربّص بهم، وأقناعهم بأن هناك ثمناً يجب لهم أن يدفعوه لأنهم المدافعون عن «الإنسان والعدل والحرية والديمقراطية..»، ولأن مصالحهم في خطر. في الوقت الذي تشرعن فيه «الحروب المقدّسة» في الداخل تضخّ رسائل إعلامية مخالفة تماماً للخارج، لإقناع الشعوب -التي سيتم عمّا قريب تحريرها- بأن زمن الحديث عن السيادة الوطنية قد ولّى، وأن الوقوف في وجه «الاحتلال» هو وقوف في وجه التطوّر والتحرر، هو دعمٌ للدكتاتوريات والتخلّف والفوضى..
كيف يمكن للخطاب الأمريكي إحتواء وتبرير هذا التناقض بين الترويج لفلسفة الانفتاح ومركزة الثروة؟ انفتاح الأسواق الكوكبية أمام البضائع الأمريكية ومنتجات الشركات متعددة الجنسيات، انفتاح العقول أمام مفردات الثقافة الأمريكية من أفلام هوليودية وأغانٍ وموسيقا و«أنماط حياة» أمريكية يتم التسويق لها في كل مناسبة؟ أو الترويج لفكرة جعل الكرة الأرضية مجرّد قريةٍ كونيةٍ صغيرة بالاستفادة من التقنيات الحديثة، وإقناع الشعوب والحكومات بضرورة التخلي عن «الطمع» والأنانية» والقبول «بالمشاركة» و«الانتفاع المشترك» من الموارد والثروات الباطنية والطبيعية التي صادفَ أن تُخبأ وتدفن في أراضٍ قصيّةٍ، كي تكلّف الأمريكيين عناء الذهاب والبحث عنها!
وفي الوقت ذاته الترويج للإنغلاق الشديد عند الحديث عن الأمن الأمريكي وتضخيم الشعور بالاستهداف والخطر من جميع الإرهابيين والدكتاتوريين والجواسيس وحتى الكائنات الفضائية..!! والأهم من ذلك كله الإنغلاق الشديد في حماية المصالح وتوزيع الثروة وحصرها بالمحظوظين من «1%»؟!
رغم أن الحديث عن مركزة الثروة وفتح الأسواق والتدخل الأمريكي في حياة الشعوب أصبح مكروراً مملاً في نظر البعض، لكنه يعود اليوم للسطح جلياً بالنسبة للكثيرين كما لو أنهم اكتشفوه الآن إثر شعورٍ مباغتٍ بالظلم. بعد أن استيقظوا على مشهد واقعٍ مضطرب، يحاول أن يدفع بهم لتسليم الإرث الوطني الوحيد الذي كانوا يعتزوّن به -مكللاً بذلك سلسلة الخسارات التي تراكمت طوال سنتين- وتوديع رموزٍ كيوسف العظمة وأبطال الثورة السورية الكبرى باعتبارهم «دونكيشوتيّين» ينتمون لزمنٍ آخر، بعد ما نالت هذه الرموز ما نالته طوال سنوات من تهميشٍ وتجاهل أو توظيفٍ ممجوج خطابي سطحي أفرغها من معناها.
هناك من يحاول اليوم إقناع السوريين بأن التدخل الخارجي ليس احتلالاً بحكم «الظروف» و«المستجدات الميدانية»، وآخرون يروجون لفكرة قبول تدخل خارجي علني وصريح ومدمّر بحجة أن البلاد غدت ساحةً مفتوحة للصراع الدولي، هم يحاولون إقناع السوريين بكل ذلك ممهدين للحظة «سقوط دمشق» إثر بغداد .. لكن هيهات أن يقتنع السوريون..!!