الأساطير في الوعي البشري (1/2)
(قد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل، إن هذا إلا أساطير الأولين) قرآن كريم. كان اعتماد الفكر على الأساطير في تفسير حقائق الكون من أهم ظواهر التاريخ الثقافي الذي أبدعته البشرية عند العتبة الأولى في سلم رقيها الحضاري
ففي المجتمع البدائي كان هذا الفكر الوسيلة الأساسية لفهم العالم الغامض الذي يعيش فيه البشر، حيث يعد أقدم شكل من أشكال إدراك هذا التنوع الكبير في مظاهر الطبيعة المحيط بالإنسان من كل جانب. زرع التصور البشري الطبيعة بمختلف الأنفس. ولم تكن قد انعكست في هذه الأنفس صلات واقع حياة الناس وعلاقاتهم، وإن كانت صورتها فيها الكثير من الخيال، لأن المجتمع البدائي لم يعرف علاقات السيطرة والتبعية، لذلك لم تجد مثل هذه العلاقات مكاناً لها في عالم القوى الفوقية الذي صنعه الخيال البشري.
اعتقد الأوائل أن النفس قادرة على التجسد، فالعالم في نظرهم مسكون بالأنفس الطيبة والأنفس الشريرة التي تؤثر على سلوكهم تأثيراً كبيراً. فإن الحجر أو الشجرة أو الجبل، ناهيك عن أنواع الحيوان، لها نفس ويمكنها أن تؤثر في حياتهم اليومية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كلمة نفس وردت عند أهل مملكة إيبلا في إدلب شمال سورية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد بلفظ (نوبوشتوم) وهي أصل كلمة نفس العربية والتي من معانيها، فرد، أو شخص، ومنها تسمية دائرة الأحوال الشخصية دائرة النفوس.
وما أن هلت تباشير المجتمع المستقر على ضفاف الأنهار والسهول الخصبة القابلة للزراعة وتهجين الحيوان وبناء المساكن من الطوب المشوي بأشعة الشمس، في مختلف أرجاء العالم، حتى أخذت تظهر أساطير أكثر تعقيداً، وتتحول هذه إلى روايات وحكايات متسقة يرتبط بعضها ببعض وتؤلف في النهاية عالماً من الأساطير الواسع الطيف. وقد أظهرت الدراسات المقارنة لقصص مختلف الشعوب عن وجود تلاقح فيما بينها، يعود في أصله إلى مفهوم الاستعارة، فمثلما يستعير القمر نور الشمس ليعكسه ضياءً ساحراً على الأرض، استعارت الشعوب الأساطير من بعضها، بعد أن تكون الأساطير المقتبسة قد أخذت مكانها المدرك في حياة الشعب الذي اقتبسها، وفي رؤاه، بما يتلاءم وظروف حياته ومستوى التطور الذي حققه.
وقد تشكلت المقدمات الرئيسة للفكر الأسطوري لأن الإنسان البدائي لم يكن قد أصبح قادراً على فصل ذاته عن الوسط المحيط، الطبيعي والاجتماعي. فقد أضفى الإنسان صفاته الذاتية على مواضيع الطبيعة، ونسب إليها الحياة والأحاسيس البشرية. وما نشهده اليوم من دعوة بعض الجماعات البشرية لترك المدن الكبيرة والعودة لحياة الطبيعة البكر إلا انعكاساً لتوق النفس الإنسانية إلى عصورها البدائية.
فالتعبير عن قوى الفضاء الكوني وصفاته وأجزائه على أنها شخصيات محددة، محسوسة، حية، هو الذي خلق الفكر الأسطوري الغريب المبتكر، إذ غالباً ما تمثل الفضاء في الأساطير عملاقاً حياً يمكن أن يتألف العالم من أجزائه، ويصور الأجداد الكائنات الحية على أنها ذات طبيعة ثنائية على شكل حيوان وعلى شكل بشر، وهذا ما يفسر أحد أسرار التماثيل المزدوجة التركيب المكتشفة في حقبة ممالك المدن الأولى في وادي الرافدين والهلال الخصيب.
يدرك الوعي البدائي محتوى الأساطير على أنه حقيقة واقعية، لأنها إدراك حقيقي لواقع معطى في صورة حاضر مستمر. إن عدم القدرة على إقامة حد فاصل بين الطبيعي والخارق قد حول الفكر الأسطوري إلى نظام رمزي فريد، جرى إدراك العالم من خلاله. ويمكن أن تستمر بعض سمات الفكر الأسطوري حية في وعي الناس إلى جانب عناصر المعارف الفلسفية والعلمية. ففي أيامنا هذه مازالت الأساطير الدينية تستخدم على نطاق واسع في الموروث الشعبي والوعي الاجتماعي.