أن تكون شابّاً... ومشرّداً بلا مأوى
كتبت جنيفر إيغان في آذار/مارس 2002:
مثل معظم الناس الذين يجدون أنفسهم يسعون لمأوى في وحدة الطوارئ في البرونكس، حيث البوابة الوحيدة في نظام إيواء العائلات المشرّدة في مدينة نيويورك. كانت جاكي فولر واثنين من أطفالها يقفون في صفّ طويلٍ جدّاً من البائسين سيئي الحظ. كانت فولر، ذات الأربعة وأربعين عاماً، تعيش حتّى وقت قريب في بروكلين. ولكن مثل باقي الناس الذين انتهى بهم المطاف مشرّدين بلا مأوى، لم تعمّر في عنوانها الأخير لا لوقت طويل ولا بشكل آمن. كانت فولر وزوجها من سكّان نيويورك الذين انتقلا إلى ممفيس عام 1994. وكان لديهما قبل عامين فقط وظائف جيّدة، وكانا يربيان الثلاثة من أصل خمسة أطفال الذين حظيت بهم فولر من زواجها الأول، في منزل مستأجر. ولكن فيما بعد اشتاقت لابنتيها الأكبر سنّاً ولحفيدتها، واللواتي كنّ يقطنّ في الشمال. لذا قرّرت العائلة أن تعود إلى الشمال. قام زوجها بالسفر مرّات متتالية لكي يفرغ من بعض الأمور، ومع مرور الوقت خسر عمله المربح في طلاء الجسور وبات على علاقة غرامية بامرأة أخرى، ممّا أدى إلى انهيار الزواج.
انتقلت فولر، هي وأطفالها الثلاثة، لتعيش مع ابنتيها الناضجتين وحفيدتها في شرقي نيويورك، في بروكلين. تشارك سبعة أشخاص شقّة مؤلّفة من غرفتي نوم صغيرتين. وبينما كانت فولر تسعى بشكل يائس للحصول على عمل، أجرت العديد من المقابلات في وول ستريت، حيث عملت هناك لسبع عشرة سنة في تسليم السندات الحكومية، حتّى مغادرتها للمدينة. لكنّها لم تتلقى أيّة عروض. وبينما تنتظر نتائج مقابلات العمل، جرّبت أن تبيع مناشف الاستحمام في سوق البضائع الرخيصة المكشوف. حتّى أنّها خضعت لدورة تدريبية عن طريق الإنترنيت.
بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بدأت مقابلات العمل تندر. وفي هذه الأثناء، اعترض صاحب العقار المستأجر في بروكلين على اكتظاظ قاطني الشقّة، وحدّد موعداً أقصاه 1 كانون الثاني/ يناير لإخلاء القادمين الجدد من العقار.
في 14 كانون الثاني/ يناير، اتجهت فولر مع طفليها الأصغر سنّاً، شانا ذات الستة عشر عاماً وداريان ذو الاثنا عشر عاماً. نحو البرونكس وهم يحملون حقائبهم إلى وحدة الطوارئ أو كما تسمى اختصاراً (E.A.U). (انتقل ولدها الأوسط بعمر العشرين للسكن مع أقارب آخرين له). قالت لي شانا فيما بعد: «اعتقدنا بأنّه لن يكون هناك أي أطفال، ولكن اتضح فيما بعد كم كنّا مخطئين».
تعريب وإعداد: عروة درويش
شانا، مراهقة قويّة ومتمرّدة، مع ميلٍ لأدوات الزينة ورديّة اللون. حصلت على المعلومات عن نظام الملاجئ من صديقاتها الأعز، واللواتي كانت عائلاتهن مشرّدين بلا مأوى منذ بضعة أعوام. ولكنّ شانا لم تخبر صديقها الحميم، وهو طالب جامعي في سنته الأولى، بشأن إقامتها في بيوت الإيواء. قالت وهي تشرح موقفها: «لا أعلم إن كان بإمكاني أن أكون صريحة معه بهذا الشأن، ربّما لن يتقبّل الأمر وسيهجرني، قلت له بأنّني سأمضي للإقامة في بيت عمتي لأنّها وحيدة. امتنعت عن إعطائه عنواناً محدّداً، وعندما اتصلت به من مركز الإيواء سألني عن الضجّة من حولي، فأجبته بأنّهم أبناء عمتي الأطفال يبكون ويصرخون».
استمرّ شقيقها الأصغر، داريان بالتحايل لأسابيع حتّى لا يكتشف أحدٌ من زملائه في الصف السابع حقيقة أنّه يعيش في بيتٍ للإيواء. لقد كان لقبه «المضحك». لقد شرح: «أنا مثل اللطخة، لقد قلت لهم بأنّ والدتي لديها عملٌ حقيقي، ولكنّها تقوم ببيع المناشف للحصول على بعض المال الإضافي لأنّنا سننتقل إلى مكان أفضل».
ليس مسموحاً للصحفيين بالدخول إلى مركز الإيواء. أو حتّى بالاقتراب من الأبواب، ولكنّني رتبت لزيارة خاطفة في داخل بناء مركز الإيواء المؤلّف من طابق واحد والمبني من الطوب منذ بداية الشتاء الماضي. سلسلة من الغرف من دون نوافذ، مضاءة على مدار الساعة لتشعر كما لو أنّك في كازينو. المكان مكتظّ بالأطفال تماماً كما قالت شانا. يجب أن يتقيّد كلّ فرد من العائلة بالنظّام ليتمّ قبول العائلة في المركز، أصوات سعالٍ وبكاءٍ منخفضين. لقد كان الجو متكتّماً بشكل غريب. جلست العائلات أو اضطجعت على كراسي طويلة ملوّنة. العديد من الأسرّة القابلة للطي كانت متناثرة على الجوانب. وضعت العائلات التي كانت تملك تلفزيون أو لعبة فيديو السلك في المأخذ الكهربائي في الحائط، ليجتمع الأطفال من كامل المركز حول تلك البقعة.
في الليلة الأولى لهم كأسرة مشرّدة، استقلّت فولر وأطفالها حافلة مدرسية إلى حي تيرمونت في شرقي البرونكس، أحد المواقع التي تؤمّن فيها المدينة مكاناً للمبيت للعائلات التي ماتزال في طور التسجيل. قابلت في اليوم التالي لجنة التحقيق التي يعود إليها تحديد إن كانت تستحق المعونة. إن نيويورك من ضمن المدن الفريدة في هذه المسألة، فبموجب مرسوم وقرار لاحق من المحكمة، تلزم المدينة بتقديم المأوى لكل فرد أو عائلة بحاجة له. ولكن انطلاقاً من تسعينيات القرن العشرين وتحت رعاية إدارة جولياني، فإنّ إثبات التشرّد والحاجة للمأوى بات أمراً صعباً وشاقّاً جدّاً. فعلى كلّ متقدّم أن يعرض تاريخ سكنه للعامين السابقين للطلب، ممّا يتيح للمحققين أن يزوروا جميع الأماكن المذكورة ليحددّوا بأنفسهم فيما إن كان للعائلة خيارات سكن أخرى. فإن قرّرت اللجنة أن البديل السكني موجود فتصبح العائلة غير مؤهلة للإعانة وعليها أن تغادر البيوت التابعة لنظام الإعانة فوراً (من الجدير بالذكر أن العائلات يمكنها إعادة تقديم الطلب). إذا صنّفت العائلة من ضمن المؤهلين، فإنّهم يوضعون فيما يدعى بالمرحلة الانتقالية، أو اصطلاحاً «العجلة البديلة»، حيث يتم إيواء العائلة في مساكن تُدار من قبل مؤسسات غير ربحية بموجب عقد تقدّم من خلاله بعض الخدمات، من ضمنها: الاستشارات والتدريب المهني والمساعدة في إيجاد مسكن. يهدف ذلك إلى مساعدة العائلة على الانتقال إلى مسكن دائم.
أثناء قيام المدينة بتحقيقاتها، يتم وضع العائلة في مكان يدعى «المأوى المشروط» لمدّة عشرة أيام في العادة. عادة ما يكون هذا المكان إمّا غرفة مستأجرة في فندق مملوك للقطاع الخاص، أو في منزلٍ من ضمن 1300 منزل قامت المدينة باستئجارها لاستيعاب عدد العائلات الفائضة عن غرف الفنادق. انتهى الأمر بفولر وشانا وداريان في منزل من غرفة واحدة (ستوديو) في مبنى متهدّم في جادّة أوشين في بروكلين، حيث يتشاركون ثلاثتهم سريرين منفردين ملتصقين ببعضهما. يتجادلون على من عليه النوم في الصدع في المنتصف. هذا وضع مزرٍ بالتأكيد، ولكن بالنظر إلى الواقع الموازي في شيكاغو، حيث يوجد فقط 6000 سرير إيواء منفرد لاستيعاب ما بين خمسة عشرة إلى عشرين ألف مشرّد بلا مأوى، نصفهم تقريباً من العائلات التي لديها أطفال. يقول جون دوناهو. المدير التنفيذي لمؤسسة التضامن مع المشردين: «يُترك الغالبية ليناموا في السيارات أو في الأبنية المهجورة، حتّى في الشتاء القارس».
تقول فولر بينما هي جالسة على طاولة مطبخها الصغيرة منذ خمسة أيام: «إنّها شقّة صغيرة، لكنّها مرتبة». صوتها ناعم ولكنّها متحدّثة بارعة، ويعشقها أطفالها. فبينما كنّا جالستين قام داريان بوضع أصابعه على قرطي والدته الذهبيتين ضئيلي الحجم ومرّر يده في شعرها. إنّه ولد صعب المراس، حلو المزاج. لكنّه كان مستاءً من ظروفهم الجديدة. كان يضع يديه بتوتّر حول ضفائر شعره.
إنّه يفتقد للأيام حين كان يلعب ألعاب الفيديو على تلفزيون العائلة المسطّح الذي بقي في ممفيس. يفتقد إلى الخروج ولعب كرة السلّة، لم يعد يستطيع الآن أن يخرج إلى أيّ مكان. هناك نسخة مفتاح واحدة للشقّة، وفولر لن تهدر المال على صنع نسخ أخرى في حين أن العائلة ربّما تغادر في غضون أسبوع. وعليه فإنّ على الجميع أن ينسّق أوقات الذهاب والدخول. كان داريان يتمشّى في دوائر صغيرة في المساحة المتاحة، أحياناً يخرج للردهة الضيّقة في الطابق الخامس، ويمارس هناك بعض حركات الملاكمة التي اعتاد ممارستها.
بالنسبة لشانا، فقد كانت مصمّمة على ألّا تسمح للتشرّد بأن يمسّ حياتها كفتاة ذات شعبية في سنتها الأولى في الثانوية. تستيقظ في الخامسة صباحاً، ثم تغادر متنقّلة بين ثلاثة قطارات أنفاق متبوعين بحافلة، تمتدّ هذه الملحم الصباحيّة مدّة ساعتين تحتاجهما للوصول إلى مدرستها. تتفرّس والدتها، وكذلك شقيقها، بحزمها ومزاجها. لكنّ الكفاح ضد قسوة الواقع لن يتركك دون خسائر. فبينما كنّا نتحدث في تلك الليلة، اضطجعت شانا للخلف على السرير وبلحظة غيّبها النوم وهي لاتزال بكامل ثيابها.
تقول فولر وهي مذهولة بالسرعة التي نفذ منها المال: «تستمرّ المصائب في ضربك مرّة تلو الأخرى. لابدّ وأنّ هذا هو الدرك الأسفل».
لقد كانت فولر ووليدها ينضمون إلى العائلات المشرّدة في مدينة نيويورك والتي يتزايد عددها بسرعة الصاروخ. ينام ما يقرب من اثنان وثلاثين ألف شخص في الملاجئ كلّ ليلة، ويزيد هذا العدد بنسبة 23% عن العام الفائت (عام 2002)، وهي النسبة السنويّة الأكبر منذ الكساد الكبير. إنّ هذا الرقم أعلى حتّى من عام 1987 حيث كان العدد: (28737). وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ العائلات يشكلون 75% من تعداد المشردين في نيويورك، فإنّ هناك أكثر من ثلاثة عشر ألف طفل ينامون في ملاجئ المدينة وفي الشقق المؤقتة، في ليالي الشتاء الباردة.
إن الأسباب الجذرية على ما يبدو لما يدعى بالتشرّد المزمن (أن يداوم البالغون على السكن والتنقّل بين الملاجئ وأن يصبحوا كالأشباح المحيطين بقلب الأمّة) هو على ما يقال الأمراض العقلية والإدمان على الكحول وتعاطي المخدرات، ولكن المدمنين والمريضين عقلياً لا يشكلون بأعظم التقديرات أكثر من 10% من مجموع قاطني الملاجئ. والأطفال كما هو واضح لا يمكن أن يندرجوا ضمن هذا التصنيف. الطفل النموذجي في الملجأ هو طفل دون الخمس سنوات، فقيرٌ جدّاً ويعيش مع شقيقه وأمّ عزباء. قد تفتقر الأم إلى التحصيل العلمي أو إلى المهارات اللازمة لانتشالها من الفقر، وغالباً ماتكون ضحيّة للعنف المنزلي. العوامل التي تضاعف من طول أجل حالة الأطفال الاقتصادية المتردية هي: العوز أو الأجور المتدنية مقرونة بارتفاع أجور السكن. في النهاية، هؤلاء الأطفال هم أصغر أفراد هذه الأسر المضطربة والتي لا تملك المال الكافي لتأمين مكان تستر فيه نفسها. إذا ما انتبهنا إلى كون هذه الحقبة تعتبر مزدهرة عموماً، فإنّ الأرقام تذهلك: بين تسعين ألف إلى مائة وأربعون ألف طفل أمريكي هم عرضة ليكونوا بلا ملجئ لفترة من الوقت كلّ عام. معظمهم مشرّدين لمرّة واحدة، مشردين لأشهر لا لسنوات. وبينما تمييز تأثير هذا التشرّد على هؤلاء الأطفال من باقي تأثيرات الفقر هو أمر صعب، فإنّ هناك أدلّة على أنّ الأطفال المشردين يعانون من مشاكل صحيّة أكثر، وحاجة لطبابة أكثر، ومشاكل صحية مزمنة أكثر من الأطفال الفقراء الذين لم يضطروا إلى التشرّد. الأطفال المشردين هم أكثر عرضة ليتم فصلهم عن عائلاتهم لفترات مختلفة، سواء فصلهم ليعيشوا مع أقارب آخرين أو ليعيشوا في دور الرعاية. الأطفال الذين اختبروا التشرّد هم أيضاً أكثر عرضة ليصبحوا مشرّدين بعد نضوجهم.
لكن لكون هؤلاء الأطفال لا ينامون في الحدائق أو يتوسلون في مترو الأنفاق، فإنّ واقع تشرّدهم هو خفي وغير مرئي إلى حدّ كبير من قبل البقية الذين يعيشون في مأوى. إنّهم يبدون مثل بقيّة الأطفال، لقد قابلت العديد من العائلات في نيويورك الذين قالوا بأنّهم ينامون في محطات مترو الأنفاق في الليل مع أطفالهم الصغار أو أنّهم يسكنون في العراء مع أطفالهم المراهقين. هؤلاء الأهل يعانون بشدّة من خطر انتزاع أطفالهم منهم من قبل إدارة رعاية الطفولة، بسبب عدم قدرتهم على تأمين السكن المناسب. لكن كوننا لم نرى الأطفال المشردين ينامون في الشوارع، ولأنّ المساكن والملاجئ المخصصة لهم تقع في الأحياء الأشدّ فقراً في أطراف المدينة، هذا لم يمنع الغضب الذي ثار إثر ارتفاع نسبة التشرد في الثمانينيات من القرن الماضي. على الرغم من أن الأطفال المشردين يشكلون نسبة تصل إلى 40% من العدد الكلي للمشردين، فلا يزال هؤلاء الأطفال من دون مأوى. والتشرّد هو الحقيقة الوحيدة في حياتهم، وذلك حتّى أجل غير مسمّى.
بحسب اعتقادي، فإن وحدة الطوارئ تقع في الشارع الأكثر برودة على الإطلاق في مدينة نيويورك، في الشارع 151 تماماً بعد الغراند كونكورس. لمدّة ليالٍ ونهاراتٍ كثيرة من الشتاء الماضي، كنت أقف هناك على الزاوية التي تعصف بها الريح، أرقب الشباب. كان أغلبيتهم من النساء السود أو اللاتينيات، وبينهم يقف بعض الرجال، وهم يحملون أطفالهم داخلين أو خارجين من ذلك الباب الحديدي الرمادي. يصلون ومعهم حقائب وأكياس قماش وعربات تسوّق، يحملون معهم بطانيّات ولعب باربي وتلفزيونات. عندما تقارب بعض العائلات حدّ الجنون جرّاء الجلوس داخلاً، فإنّهم يحصلون على تصاريح مؤقتة للسماح لهم بالخروج وتدخين سيجارة أو شرب بعض القهوة. يتوسّل الأطفال لأهلهم كي يشتروا لهم الحلويات من البقالية في الجانب المقابل من الشارع (علماً أنّه يتمّ تقديم الطعام في مركز الإيواء، ولكنّه طعامٌ رديءٌ جدّاً)، ينصاع الأهل ويبدؤون بالأكل في الجو البارد، بينما يروي الأهل بعض القصص للأطفال. إنّ جزءاً من العوائل في مركز الإيواء هم من المتقدمين للمرّة الأولى، ولكن غالبيتهم يقولون بأنّهم يقدمون الطلبات بعد أن رفضت لجنة التحقيق طلباتهم الأولى، ولبضع مرّات في الغالب. يكثر الارتياب هنا بشكل كبير، وتعمّ الشائعات المكان: أحدهم يقول بأنّ لجنة التحقيق حكمت بأنّ الحمّامات المتهدمة أمكنة صالحة للسكن، أو أن مركز الإيواء يتلقى دفعات مالية في كلّ مرّة يتم رفض طلب عائلة واعتبارها غير مؤهلة (وهذا غير صحيح رسمياً).
يميل الأولاد لعدم الاكتراث بهذه التصريحات الانفعالية، فهم يلعبون بينما يحدّق الأكبر سنّاً بشرود في الأفق. اعتاد الأطفال الذين يعيشون، سواء داخل مركز الإيواء أو حوله، على مشهد أهلهم المتوسلّ والعاجز والمعوز.
يشاهدون أمهاتهم يبكين ويفقدن أعصابهن مع موظفي المدينة. هذا بحدّ ذاته يعتبر كعقاب، فقد باتت الصورة التي يفترض وجودها في أذهانهم عن الأهل الذين يحمونهم ويؤمنون المسكن لهم، وبشكل فعلي، مكسورة وسبباً للإحباط. تستطيع أن ترى هذا التأثير في المراهقين: الغضب والإحساس بالخزي والعار والجزع في ذات الوقت من التنفيس عن الغضب أمام الأهل الضعفاء المحاصرين. يبدو العديد وكأنهم على حافة الانهيار، وخصوصاً الصبية الذين يتسللون إلى خارج مركز الإيواء ليتنشقوا بعض الهواء البارد القاسي. شاهدت في أحد الصباحات صبيّاً في حوالي السادسة عشرة من عمره يتسلل خارج المركز ويركل نافذة سيارة الشرطة، ممّا جعلهم يضعون الأصفاد في يديه ويجرونه معهم جرّاً.
هناك في آخر الشارع لأولئك الذين يستطيعون تحمل كلفته مطعم ماكدونالدز، والذين يذهبون إليه يقصدون إضافة إلى الأكل، استخدام الحمّامات النظيفة. مضيت في أحد المساءات قبل بضع أيام من عيد الميلاد للغداء هناك برفقة دينيس بون البالغة من العمر 28 عاماً مع ولديها شاناي 9 أعوام، ودينيس 11 عاماً. يدرس كلا الولدين في الصف الرابع. كان دينيس ولداً هادئاً، ضائعاً داخل معطفه المنتفخ. ولكنّ شاناي كانت متمرّدة على الحياة، كما لو أنّ كامل الألق الذي فقده وجه والدتها الحزين، قد وجد طريقه إلى داخلها.
قالت شاناي بحماسة: «لقد مرّت ثلاثة أشهر على انهيار برج التجارة العالمي». ترتدي قرطان بلون ذهبي وخرزات زرقاء وحمراء في شعرها المضفور وقبعة صغيرة كتب عليها: (حمى الله أمريكا). كانت تستمع إلى والدتها وهي تقول بنبرة كئيبة بأنّه قد تم رفض طلبها ستّ مرات قبل أن تتقدم بطلبها الأخير في نيسان/أبريل الماضي. قالت بتحفّظ بأن سلطات المدينة أرادتها أن تنتقل للسكن مع صديقتها التي لم تقبل بوجودها، والتي تشاجرت معها واستحصلت حديثاً على إشعار قضائي يمنعها من الاقتراب منها. ثمّ إشعار آخر ضدّ والدتها التي كانت تقطن في منزل مؤلف من غرفتي نوم تؤوي فيهم خمسة أشخاص بالغين، أحدهم هو شقيقها المصاب بالإيدز. قامت دينيس في آب/يونيو، ودون وجود مكان يمضون إليه، بوضع أولادها في دار رعاية الأطفال، لكنّهم هربوا لأنّ المربين هناك عاملوهم بشكل سيء. وكما صرّحت دينيس بون بنفسها: فقد قضت هي نفسها جزءاً من شبابها في دور الرعاية وفي البيوت التابعة لها، تماماً كما العديد من الأمهات المشردات اللواتي قابلتهن.