رشيد بوجدرة... الشيوعي «العنيد» في بيروت
منذ باكورته «التطليق» (1969)، خلخل تقاليد الرواية الجزائرية، آتياً بعد جيل الرواد مباشرةً. مزاجي وإشكالي ومثير للزوابع، قارع الدين والتابوهات الجنسية، وما انفك يكتب عن الاستعمار، وأحلام الثورة المسلوبة في بلد المليون شهيد. اليوم، يحلّ على العاصمة اللبنانية ذلك الرجل الذي أسّس للأدب الشجاع قبل 50 عاماً، فهل تعب حقاً من المشاكسة؟
حسّاس، مزاجي، إشكالي ومثير للجدل... صفات كثيرة تُطلق على أحد أكثر الروائيين الجزائريين حضوراً في المشهد الثقافي. ازدواجية لغة الكتابة لديه لم تمنعه من طرح قضايا عالمه العربي والإسلامي، مستمتعاً بكسر التابوهات: كبت جنسي، نفاق سياسي، وتطرف ديني... تحضر الجزائر بتحولاتها وإرهاصاتها والأحلام المجهضة لثورتها في كتاباته، التي تنبش في ذات الإنسان الجزائري، هو الفخور بكونه الشيوعي الأخير في الجزائر.
رشيد بوجدرة (1941) الذي يحلّ اليوم على بيروت ليحكي «قضايا الحداثة في الكتابة الروائية» في فندق «البريستول» بدعوة من «جامعة البلمند»، ينحدر من أسرة بورجوازية في منطقة عين البيضاء شرق الجزائر، في زمن كان فيه معظم الجزائريين ضحية الجوع والجهل الذي مارسه الاستعمار الفرنسي. شكّلت هذه العناصر وعيه السياسي، فالتحق بثورة التحرير (1954 ـ 1962) ليصبح مناضلاً بروليتارياً. بعد الاستقلال، تخصّص في الفلسفة والرياضيات وتخرج من «جامعة السوربون» عام 1965. عقب الانقلاب العسكري على الرئيس الراحل بن بلة، غادر الجزائر ومُنع من دخولها حتى عام 1975. منذ ذلك الحين، لم يغادر وطنه ثانية. حتى في جحيم سنوات الإرهاب، ظلت الجزائر الحاضرة الأولى في أعماله الأدبية، مستميتاً في فضح وحشية فرنسا الاستعمارية في رواياته التي تتسابق دور النشر على إصدارها أخيراً، وخصوصاً بعد عودته للكتابة بلغة موليير. فضح بوجدرة أسرار الثورة وأخطاءها، أولها الاغتيالات التي استهدفت قادتها وتصفياتهم بعضهم لبعض، فظهر ذلك جلياً في روايته «فندق سان جورج» (2007) حيث تحدث عن اغتيال عبان رمضان، أحد قادة الثورة. إسقاط القناع عن الحرب المثالية والبطل المقدس الذي يتنافس التاريخ الرسمي لفرنسا والجزائر على تلميعه، هو هدف صاحب «الحلزون العنيد» (1977) كما تبرز روايته «شجر الصبار» (2010). من خلال حوار بين البطلين، يعود بوجدرة للحديث عن قضية «الحركى» أو الجزائريين الذين وقفوا إلى جانب الاستعمار. هذا الموضوع عاد إلى الواجهة أخيراً بعد مرور نصف قرن على الاستقلال. يتعمد صاحب «فوضى الأشياء» أن تبقى أحلام الثورة المسلوبة سؤالاً مفتوحاً حتى لا يقع في خانة الأدباء الذين اتهموا بتمجيد الاستعمار أو بالحنين إلى الزمن الكولونيالي، أو بالكتابة لاسترضاء الناشر الفرنسي كما حدث مع رشيد ميموني، وبعده بوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، وأنور بن مالك...
على مدار 50 عاماً، أصدر ثلاثين عملاً جرّب فيها مختلف الأجناس الأدبية من قصة وشعر ورواية ومسرح ومراسلات ودراسات نقدية. ترجمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة. منذ باكورته «التطليق» (1969 ـ بالفرنسية)، خلخل تقاليد الرواية الجزائرية ووصف بالاستثناء في الأدب المغاربي والعربي، وبتحديث الأدب الفرنسي بحد ذاته.
أيضاً، أبدع صاحب «ألف عام من الحنين» 17 رواية بالعربية منذ «الانكار» (1972)، ما أدخله حرباً ضروساً مع الطاهر وطار (1936 ـ 2010) ولم تنته ـ بحسب بوجدرة ــ حتى بعد وفاة مَن أراد أن يأخذ لقب «زعيم الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية». ولعلّ عودة بوجدرة إلى الكتابة بالفرنسية أرادها لطي صفحة العشرية السوداء، حين تصدّرت مظاهر الدم والإرهاب وتطرف الإسلاميين رواياته من بينها «تيميمون» (1990) التي اقتبس فيها اسم المدينة الصحراوية التي هرب إليها بعد هدر دمه من قبل الجماعات الإرهابية، و«الجنازة» (2003) حيث عبّر عن موت المشروع الإسلامي في الجزائر. إلى جانب الدين، كسر تابو الجنس، وأفرط في توظيف الصور الإباحية والكلمات السوقية والنابية، ما فتح عليه نيران النقد، ومنعت روايته «المرث» من الصدور في مصر (2009). رواياته مرآة عكست وجه الأب الذي يؤرق رشيد بوجدرة، فهو لا ينفي أنّ كرهه لأبيه لأنّه كان يعنّف والدته، ومحاولة قتله رمزياً، جعلاه كاتباً عالمياً. حاز بوجدرة العديد من الجوائز، وأسهم في كتابة العديد من الأفلام من بينها «وقائع سنوات الجمر» لمحمد لخضر حمينة، الفيلم العربي الوحيد الفائز بسعفة «مهرجان كان» عام 1975. كما انتهى أخيراً من كتابة فيلم عن الشهيد زيغود يوسف. القلق والمزاجية والحروب البيضاء التي يشنها ضد بعض زملائه الجزائريين تثير زوابع ثقافية دوماً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موقفه من الثورات العربية التي لا تفرز برأيه إلا المتطرفين الإسلاميين، هو الذي يرفض نداءات التغيير في الجزائر، معتبراً أنّ ربيعها كان قبل 25 عاما (احداث اكتوبر 1988) ً. ينتقد بوجدرة انحسار دور المثقف العربي، لكن يؤخذ عليه أنّه لا يبدي موقفاً مما تشهده الجزائر من فراغ سياسي وغبن اجتماعي وفساد. كل ذلك جعل البعض يرى أنّ الرجل الذي أسّس للأدب الشجاع منذ 50 عاماً ربما تعب من المشاكسة التي لطالما شكّلت جوهر رواياته.