متاهات الصّمت والصّخب عند كافكا
كتاب طريف لفرانز كافكا تحت عنوان «من كافكا إلى كافكا» للكاتب والناقد الفرنسي موريس بلا نشو (الذي نقل إلى لغة سيرفانتيس وسواها من اللغات الحيّة) لا يمكن للقارئ أن يتخلّص أو يتملّص منه بسهولة ويسر، يلقي فيه مؤلّفه الضّوء على حياة هذا الكاتب التشيكي الذي ما فتئت أعماله الإبداعية تثير ردود فعل متباينة في مختلف الأوساط الأدبية في العديد من البلدان الأوروبيّة، وفى العالم الناطق باللغة الإسبانية.
إنّ الكتابة عن فرانز كافكا هي تأكيد وجوده إزاء استحالة تحقيق الحبّ، وهو بمعاناته، وعذاباته الداخلية، وبعزائه ومواساته لنفسه إنّما يحاول تفجير ما يعتمل بداخله من صراعات، ومناوشات وتحويلها الى صور، وأخيلة خارج ذاته عن طريق الكتابة. فصراحته المفرطة تحيل أعماله إلى شبه اعتراف يلامس بشكل خطير حدود اللاّمعقول، وبالتالي الحمق، والجنون، وهنا تكمن فكرة فشله أو إحباطه التي تعتبر بالنسبة له فرارا، أو ملاذا، أو انعتاقاً، أو تحرّرا من قيود الزّمن وجبروته وعتوّه .
رحلة الشكّ والقلق
وقارئ كافكا يشعر بهذا، فهو يبدأ معه رحلة في عالم من متاهات الصّمت، والصّخب، واللّجب، والدّأب في مختلف أعماله، وهذا يمثّل عنده ضربا من التحدّي ينطوي على خطر محدّق. ويقاسم القارئ الجادّ هذا الشّعور مع كافكا، ويجسّم نفس المخاطر والأهوال التي عاشها أو تخيّلها هذا الكاتب المنكود. ولا ينكر هذا القارئ أنّ نوعا من الإنقباض والتشنّج يعتريان ضميره وهو يبدأ رحلة الشكّ والحيرة والقلق ، والغموض مع كافكا، فيشاركه مشاغله، ويشاطره مشاكله، ويقاسمه معاناته، وقلقه في كتاباته على إمتداد حياته القصيرة بإعتباره كاتبا يسجّل كلّ ما يتراءى له وما يعتمل في داخله من خيفة، وتوجّس، وتردّد، ووحدة، وعزلة، وهوس الإنقاذ الذي يعتبره في حدّ ذاته إدانة صارخة مسبّقة للوجود. وهي فكرة قديمة تستمدّ أصولها، وتستقي ينابيعها من بعض التعاليم والأقانيم والترانيم اليهودية القديمة عند اليهود.
الكاتب والناقد الفرنسي’ موريس بلانشو’ في هذا الكتاب ينطلق من مغامرة لمحاولة كشف وإماطة القناع عن جوانب غامضة ومبهمة في حياة كافكا وأدبه، ويعيد النظر في مهمّة الكتابة وفي مغزاها إنطلاقا من الجوانب التي قد تبدو سهلة أو عسيرة، أو مظلمة او منيرة عند البعض لتصل في الأخير إلى فهم الهوّة السحيقة التي يتردّى فيها الكاتب. وهكذا يحاول هذا الناقد تحليل مهمّة الكاتب إنطلاقا من كلماته، ومكنوناته، ومعاناته، ومشاغله.
كتابات كافكا: إدانة للوجود
لقد واجه كافكا الموت ليس كموقف درامي، بل إنّه حاول إستيعاب أو فهم هذا الشعور المأساوي والحدث الدرامي، وهو لم يجد في الأدب وسيلة فقط لتحقيق غايته أو مأربه، بل إنّه ألفى في الكتابة نوعا من الفرار أو الخلاص، أو منفذا، أو ملاذا، أو إنقاذا لفداحة الموقف الذي يتردّى فيه. وأمام هذا النغوص أو الغموض كان على كافكا أن يجد الإجابة بواسطة هذا الغموض ذاته فالحديد لا يضرب أو لا يفلّ إلاّ بالحديد. وهكذا فالأدب عنده نوع من الغموض نفسه مثلما هو الشأن لدى الألماني ‘ريلكه ‘، أو الفرنسي ‘ مالارميه’ اللذين كانا يريان أنّ الأدب الغامض، أو الأدب الجيّد لا يمكن فهمه أو إدراكه أو الوصول إليه إلاّ بقدر باهظ وكبير من الذكاء، والفطنة والتفكير، والمعاناة، والمكابدة. فكثير من الأعمال الأدبية العظيمة هي أعمال غير مريحة، أو سهلة أو مستساغة الفهم بسهولة ويسر، و’ التفكّك ‘ الذي قد تحدثه بعضها لدى قارئيها قد يكون في آخر المطاف ‘ تركيبا ‘ أو بناء يغدو في آخر المطاف عنصرا من عناصر الأمل أو فسحة منه .
فكتابات كافكا تحمل في طيّاتها بذرة الموت ، والموت عنده هو الجانب السّلبي والسّحري والقّسري للحياة. وهو لا يسلب المرء حياته وحسب، بل حرّيته كذلك، وهكذا تصبح الحياة فارغة وتافهة وعبثية وغير ذات مدلول. يقوم’ بلانشو’ بمراجعة متأنيّة لبعض كتابات كافكا مثل ‘ اليوميّات ‘ ومراسلاته، وكتاباته الذاتية في محاولة منه لإستدراك عمقه وإستكناه سرّه، وهوسه في معانقة العزلة والآلام، والدّور الهام الذي لعبه ‘ ماكس برود ‘ في حياة هذا الكاتب المعنّى وإخراج أعماله إلى النّور، ومن ثم النساء اللواتي تصادفن معه في حياته أمثال ‘ ميلينا فيليس باور، ‘ و’دورا ريمان’، و’جولي ووزيزيك’، يضاف إلى ذلك عائلته، والمرض الفتّاك الذي حاق به وصار ينهشه، ثمّ أخيرا الذنب الذي كان ينتابه ويستشعره .
صخرة سيزيف
ويرى’ موريس بلانشو ‘ أنّ ثقة كافكا في’ الكلمات ‘ هي عنده ثقة إستثنائية، وهو يعتبر أنه منذ اللحظة الأولى التي يبدأ يزاول فيها عملية الكتابة يدين الوجود، فالتطلّع نحو الآمال يغدو في بعض الأحيان ضربا من تحقيق هذه الآمال. وعليه فإنّ الأدب عنده هو نقطة تلاقي المتناقضات، وتلاقح المضادّات، فيحدث أحيانا أنّ الكاتب الأكثر بعدا عن الحياة هو الأقرب منها. وكافكا كان واثقا من رسالة الكتابة، والخلق، والإبداع. وإختياراته في هذا المجال كانت واعزا ثابتا، وحافزا قويّا للمضيّ في هذا السبيل، ولو على حساب سعادته، أو تعاسته، أو حياته، أو حبّه، أو مرضه، ثم موته في آخر المطاف. وهو في هذه المراحل جميعها يشعر بثقل الذنب، وبصخرة سيزيف التي تنوء بكاهله، وهو لا يذعن أبدا لأعراف الحياة، والمجتمع، فالزّواج عنده، والتديّن، أو الإيمان او الإدمان كلّ ذلك بالنسبة له يكمن في الكتابة التي يرى فيها إلتزاما ذاتيا بعيدا عن الدّلالة الثورية للكلمة، بل هو إلتزام مع قدره، ومصيره. فالمسألة أو القضيّة تمسّ عنده أبعد من المحيط، أو الوسط ، أو البيئة، أو المجتمع الذي يعيش فى كنفه، بل إنّها تشمل الوجود ذاته ، هذا الوجود الذي وضعه في قفص الإتّهام دون ذنب إرتكبه، غير ذنب الوجود نفسه، ومعه عالم القيم، والمبادئ، والتقاليد، وليس معه أو له، من سلاح سوى سلاح الكتابة التي تغدو عنده صمتا صارخا، وصيّاحا مكتوما.
المصدر: الموقد