دروس الشاعر الأبنودي
منصف المزغني منصف المزغني

دروس الشاعر الأبنودي

شاعر برتبة أمير

الشاعر الأبنودي القناوي الصعيدي المصري العربي الشعبي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي عبدالرحمن الأبنودي (11 أبريل/نيسان 1938 - 21 أبريل/نيسان 2015 ) هو أكثر من شاعر، فقد غاب مخلفا على خريطة رحلته حدائقَ من أشجار الأغاني وأشجان المعاني، وكان من أمراء الأغنية منذ أكثر من نصف قرن ولا أحد من أمّة العرب أو غيرها نجا من سطوة عبارات الأبنودي أو كلمات أغانيه بواسطة عبدالحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وفايزة احمد ومحمد رشدي ووردة الجزائرية أيام الإذاعة والأسطوانة والكاسيت والتلفزيون الأرضي، وصولاً الى عصر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي.

الشاعر الشعبي العابر للهجات

لعلّ الأبنودي هو الشاعر الشعبي العربي الوحيد الذي تجاوز اللهجة الخصوصية العابرة للآذان العربية والوجدان العربي، فهو لا يحتاج إلى ترجمان حين ينتقل بين البلدان من قطر عربي إلى آخر ومن لهجة عربية إلى أخرى، إنّه ينجز أمسيات يزدحم فيها عشاق الشعر الشعبي والفصيح معا، ويحتوي جمهوره على طبقات ثقافية مختلفة.

لقد أنجز الابنودي شغلاً يُحسبُ له، فهو من بين شعراء قلائل عرب هندسوا جسوراً بين الشعر والجمهور، حيثما حل في الوطن العربي الممدود على قارتيْ أفريقيا وآسيا.

لكأنّ لهجةَ الأبنودي فصحى ثانيةٌ متآخيةٌ مع الفصحى الأصل، وهي لهجة مصنوعة في مصفاة، المصفاة هي مجمّع، المجمّع يضمّ قبائل، القبائل منتشرة من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي، وتتآلف القبائل بانسجام وحنان في حنجرة عبدالرحمن الأبنودي.

مهندس جسر الشعر والجمهور

إنّ ما حققه الأبنودي من إنجاز في جسر التواصل مع الجمهور هو قدرة على عبور الحدود العربية، وتجسير العلاقة بين الشعر وجمهوره، حتى لكأنّ على اللغة العربية الفصحى أن تغار من هذا الشاعر العربي الشعبي المثقف الذي عرف كيف يكون في الوسط الشعبي والشعري وَالحداثي في آن معاً، والأبنودي هو، شاعر شعبي يكتب نثراً فصيحاً جميلاً وَميسوراً وبسيطاً، ولأن الأسلوب هو الرجل، كان الابنودي نسخة من روح الصعيد الأصيل، وكان هذا الشاعر الشعبي استثنائيّا لأنه لا يعاني ما يعانيه الشاعر الحداثي المعاصر من هجر الجمهور.

شاعر شعبي وجوائز فصحى

هل هي صدفة أن يملك الأبنودي مكتبة قديمة وحديثة، سمعية وبصرية قلّ أن تتوفر في بيت شعراء الفصحى، فهو ابن الكتاب وأبو الكتابة، ومن عرفه عن قرب، لمس اطلاعه على تيارات الفكرية والجمالية مثل السوريالية والوجودية والماركسية، وأثرها في الفكر والفنون.

والمتأمل في الحساسية الجديدة التي أدخلها على مستوى الاغنية كانت نتيجة حاجته إلى الانفتاح على عالم أكثر رحابة. لقد قام باقتراح حساسية شعرية جديدة في كتابة الأغنية، وفي كتابة القصيدة الذهنية "ديوان صمت الجرس" والقصيدة الدرامية "جوابات حراجي القط" والقصيد الملحمي "أحمد سماعين" وغيرها من النماذج، هذا يدل على أن الأبنودي لم يركن إلى موهبته وحسب، فكان لا يكفّ عن التثقّف وتطعيم الشعر بالفكر وباقي الفنون مثل السنما والرسم.

حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، وكان أول شاعر عامية مصري يفوز بمثل هذه الجائزة، كما فاز بجائزة الشاعر الفصيح محمود درويش للإبداع العربي للعام 2014، وكان الفوزُ بهاتين الجائرتيْن أمرًا استثنائياُ بحق، ولكن لا أحد اعترض على إسناد هاتيٍن الجائرتين إلى غير الفصحاء من الأدباء، لأسباب أبرزها أن الأبنودي برهن أنه أكثر من شاعر شعبي فقد عمل على أن يكون سلطة معرفية وثقافية وشعرية عالية.

الشاعر عابر للجدار العازل

كان الأبنودي مثقفاً عضوياً بامتياز، لم يشعر بالجدار العازل بين أدبه والناس، وكان استثنائياً وذا ثقافة بعيدة عن النوادي المخملية، فهو مع الناس في حلهم وترحالهم وهمومهم وأحلامهم القومية وَالمصيرية.

أمّا عمل السيرة الهلالية الذي قام به، فهو أكثر من أكاديمي، إنه عمل ميداني جبار مقارن يستوجب حساسية شعبية منذ الطفولة، وجهداً لا يعرف نقطة نهاية أو وقوف، ولم يكن يتبجح بهذا الجهد، ولم يطلب منحةً من الدولة، فقد بدأ رحلة التوثيق الصوتي للسيرة بواسطة آلة تسجيل ممتازة أهداها إياه عبدالحليم حافظ في الستينيات.

مجنون الهلالية لا يعوّض

من العبارات الجوفاء بعد رحيل أي مبدع: لقد خسرته الثقافة، ولكن هذه العبارة تمتلئ بمعناها الأعمق عند الحديث عن الأبنودي المسحور بالسيرة الهلالية منذ الطفولة، فهذه السيرة التي سوف تأخذ وقتاً غير هين من حياة الأبنودي الذي سيجوب الصعيد، وينتقل بحثاً عن كل الروايات ويقارن فيما بينها وتصل به الرحلة إلى تونس حيث يقوم بزيارات ثقافية لأسباب هلالية، فهو مهجوس بالمقارنة بين الرواية المصرية والرواية التونسية، وهو يقارن ويسمع ويحلل، ويلاقي الكاتب التونسي الطاهر قيقة (الراحل) وكان مديراً للمركز الثقافي الدولي بالحمامات في السبعينيات ومهووساً مثل أبيه عبدالرحمن قيقة بالسيرة الهلالية.

كما كانت للأبنودي علاقة بالدكتور عبدالرحمن أيوب الباحث التونسي في الهلاليات.

وكان الأبنودي مجنون السيرة الهلالية بامتياز، قدمها في الإذاعة والتلفزيون وقدم للجمهور عشاقها ومغنيها، وأنجز منها ساعات طوالاً ووثق ما تيسر له بالصوت والصورة والكلمة المكتوبة ما لا نتصور واحداً آخر قادراً على إكمال هذا الدور الذي نهض به الأبنودي.

أبوزيد الهلالي اليتيم

إن اختزال الأبنودي في مقال لا يمكن إلا أن يكون انتقائياً، والأكيد أن العرب لن يتعرفوا الآن على هول الخسارة برحيل الأبنودي، ومعنى رحيله، وأمثاله من الشعراء أو الباحثين، ومن سوف يعطي عمره للسيرة مثلما فعل عبدالرحمن؟

الزمن العربي الآن مشغول بغير الثقافة والبحث في الظواهر الثقافية مثل السيرة الهلالية أو ألف ليلة وليلة التي اهتم بها المستشرقون وَالغربيون أكثر من العرب.

أنا أتذكّر في سبعينيات القرن الماضي أنّ مستشرقة أميركية جاءت إلى تونس، كنا شباناً، وزارتْنا في "نادي القصة والشعر" بصفاقس، ولم نكن أبرياء عندما سألناها عن سبب زيارتها إلى تونس؟ فقالت بحماس: جئت للبحث عن أثر أبي زيد الهلالي في قابس من الجنوب التونسي .

 

المصدر: ميدل ايست أونلاين

آخر تعديل على الخميس, 30 نيسان/أبريل 2015 18:31