«الوهرانيّ» للجزائري لياس سالم.. «الثورة تأكل أبناءها»
نديم جرجوره نديم جرجوره

«الوهرانيّ» للجزائري لياس سالم.. «الثورة تأكل أبناءها»

يختصر تعبير «الثورة تأكل أبناءها» المادة الدرامية الخاصّة بـ»الوهرانيّ»، الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج الجزائري الفرنسي لياس سالم. يقول سالم إن الفترة اللاحقة لـ»انتصار» الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي لم تُعالَج كفاية في السينما الجزائرية.

يريد كشف بعض المستور، والإضاءة على بعض المخبّأ، وتفكيك بعض المبطّن، والبوح بمجريات أحداث معروفة، وإن لم تكن موثّقة كلّياً. يُركّز على هذه الفترة لأن «الهوية الوطنية تبدأ باتّخاذ دروب ما لها، بهدف تشكيل نفسها» في الفترة المذكورة. هذا ما يقوله لياس سالم في «الوهرانيّ» (2013)، الذي يروي حكاية الصديقين جعفر (سالم) وحميد (خالد بنعيسى)، اللذين يخوضان معاً «مغامرات» شتّى في مواجهة الطغيان والقمع والاحتلال. في البداية، يبدو حميد أكثر حركة وحيوية وجرأة، كأنه لا يكترث بإجراء حسابات لعلّها تُنجّيه من مآزق هو بغنى عنها. بينما جعفر أحرص على الانتباه والدقّة وعدم الخطأ. هناك لحظة درامية تأسيسية أولى، تضعهما أمام مستقبل مختلف: أراد جعفر إنقاذ صديقه حميد من قبضة أحد الجزائريين، فيقتله من دون قصد. هذا يعني بداية مرحلة أخرى من النضال، مشوبة بحذر أكبر، وباختباء أقوى. هذا يعني أن لحظة التحوّل ستكشف لاحقاً أنها كانت لحظة التشظّي والانفجار بين الصديقين، من دون أن ينتبه أحدهما إليها. عندما يُدرك حميد أن هناك استحالة لقول حقيقة ما يحصل بعد «جريمة» القتل غير المتعمّد، لم يكن يتخيّل أن الصمت، وإن كان لمصلحة جعفر حينها، سيؤدّي إلى «كارثة» تُضاف إلى كوارث عديدة تُعانيها الثورة أثناء محاربتها الاستعمار: «نحن في قلب معركة، وأثناء ذلك هناك تضحيات فردية يجب أن تُبذل». بهذا المعنى، يُدرك حميد أن لا مجال أبداً لقول أي شيء لصديقه جعفر.

التأسيس الثاني للانهيارات الداخلية يحصل لاحقاً. الانتصار متحقّق. عودة الـ»بطلين» جعفر وسعيد (جمال بارِك) المختفيين إلى ديارهما، تتجاوز فرح الاستقبال وحُسن الضيافة إلى الفاجعة المخبّأة: زوجة جعفر قُتلت، ولديه منها ولد (له شعر أشقر وعينان زرقاوان!). هناك ما هو مخفيّ في موت الزوجة الأم الشابّة حتى نهاية الفيلم: كيف قُتلت؟ من قتلها؟ لماذا؟ كيف يحدث أن يكون الابن أشقر الشعر وأزرق العينين، في عائلة لا شعر أشقر لها، ولا عيون زرق؟

السرّ والالتباس يُقمَعَان لمصلحة الثورة: «أمُّكَ شهيدة الثورة، وكفى». هكذا يقول جعفر لولده الباحث عن حقيقة أصله. لكن المسألة ذاهبة في اتّجاهات أخرى أيضاً: حميد منخرط في العمل السياسي الرسمي، وجعفر يحاول البقاء على مسافة من دون أن يقطع علاقته بصديقه، و»الشلّة» حاضرة في لقاءات دائمة هنا وهناك، لا تخلو من نقاشات في السياسة ومستقبل البلد وموقعه الجغرافي والسياسي والاجتماعي الراهن. الهوية واللغة حاضران بقوة. فريد (نجيب أودغيري) يرى الجزائر بعيدة عن العالم العربي الذي يريد حميد التواصل معه: «بربر وأفارقة ومتوسطيّون»، يقول فريد ذات لقاء. الاحتدام كبير بينه وبين حميد. الغرق في اللعبة السياسية له أثمان. التمزّق والانشقاق بين «الشلّة» مستمرّان في تفتيت العلاقة. الحوارات مكتوبة بلهجات جزائرية فرنسية معاً. يقول لياس سالم إنه هو نفسه لا يعرف «لماذا كانت الحوارات بين جعفر وحميد بالفرنسية». يُضيف أنه يُريد أن يعكس هذا الغنى في الصوت الواحد داخل الفيلم، مشيراً إلى مسألة يراها محسومة: «لغة الجزائر هي الجزائرية». أما السخرية المبطّنة في «الوهرانيّ» فتتناول شخصيات وحالات ومواقف. جعفر الجالس في ملهى ليلي يريد إما أن ينسى أو يهرب، أو أنه يتأمّل في ما جرى ويجري بعين بليدة، ومشاعر مرتبكة. تنفلش التمزّقات سريعاً. لكن الجميع يدفعون أثماناً باهظة لسلوكياتهم ما بعد الثورة.

«الوهرانيّ» يستعيد ماضياً، كمن يسعى إلى إزالة بعض غبار كثيف عنه، وهذا حسنٌ ومطلوبٌ. لياس سالم يُقدِم على خطوة سينمائية صعبة: التاريخ قاس، حتى في استعادته وقراءته السجالية.

 

المصدر: السفير