Exit للتايواني تشين هسيانغ.. الصورة في عمق المأزق النفسي
إنه فيلم أداء وتوليف. «مَخرج» (Exit) للتايواني تشين هسيانغ يؤكّد فعلَ إخراجٍ سينمائي مرتكز على أداء التمثيل، وتوليف المَشاهد. تقديم الفيلم من قِبَل مُخرجه يختصر المسألة: «القصّة عادية جداً».
حكاية امرأة في منتصف الأربعينيات من عمرها. يومياتها معقودة على روتين قاتل: مصنع نسيج، ومستشفى ترقد فيه حماتها بسبب عملية جراحية في وِرْكها، ومنزل. هناك مأزق عميق في علاقتها بابنتها غير المقيمة معها دائماً. الزوج متوارٍ عن الأنظار. شقيق زوجها يظهر مرة واحدة لإقناع أمه بضرورة إجراء العملية الجراحية. ثم لا شيء.
هذا على مستوى الحكاية. لكن، هناك أمور أخرى كثيرة، يُمكن اختزالها بارتباك العلاقة الذاتية بالجسد، وبالإقامة «الجبرية» في حصار الحياة، وباختلال التوازن النفسي المؤدي إلى اختلال بيولوجي، أو ربما الناتج منه. لا يثرثر الفيلم، ولا يتضمّن حوارات كثيرة. إنه فيلم شبه صامت، وصمته أقوى تعبيراً بفضل براعتين اثنتين على الأقلّ: تصوير (تشين هسيانغ نفسه وهسو فانغ هاو) وتمثيل (شن شيانغ ـ تشي). التصوير يلتقط ما يُقدّمه التمثيل، وما لا يُقدّمه. قادرٌ على نيل مُراده من أداء مُدهش يفتح اشتغاله على الظاهر والمبطّن والعميق. شيانغ ـ تشي رائعة. تعبيرها الصامت كافٍ لفهم حالة أو انفعال أو موقف أو رغبة أو حلم أو هاجس. حركتها إضافة نوعية إلى التعبير الصامت. عيناها مدى لعدسة سينمائية تغوص في تشعّبات الذات في صراعها مع الحياة. الكاميرا تتوازن والتمثيل. يصنعان معاً فيلماً إنسانياً منتمياً إلى النفسيّ والاجتماعي والذاتي. يصنعان معاً صورة عن امرأة تواجه قدرها، وتتصادم مع شياطين راهنها، وتكسر حصارها بعد أن تتخبّط بآلام وانهيارات وأوجاع.
يُشارك «مَخرج» في «مسابقة آفاق جديدة»، في الدورة الثامنة (23 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2014) لـ«مهرجان أبوظبي السينمائي». إنه الروائي الطويل الأول لتشين هسيانغ. اختيار أمكنة التصوير لا تقلّ حرفية وجمالاً عن آلية التصوير، والتقاط التفاصيل الهامشية. أكاد أقول إنه فيلم «التفاصيل الهامشية» التي تتحوّل سريعاً إلى متن الحبكة الدرامية. لكن يوميات المرأة لن تكون مجرّد انغماس في هوامش الحياة، لأنها فعل الحياة بمُصابها وصدماتها وانهياراتها. التفاصيل امتداد لهذا كلّه. الفيلم يجمع في سرده الروائي جوهر الحكاية وجوانبها. المرأة معنية بهذا. إنها الجامع الوحيد لحكاية تبدأ من الذات وآلامها وخياراتها، وتنتهي في الذات نفسها بآلامها وخياراتها أيضاً. خيارات بعضها نابعٌ من الذات، وبعضها الآخر من ظروف وحالات. يُقفل المصنع أبوابه: «كل شيء أساسي بات في الصين وليس هنا»، يقول المدير للمرأة. يمنحها مالاً وآلة خياطة. تبدأ مرحلة جديدة من حياتها داخل بيتها. صديقة لها تحرّضها على تعلّم رقصة التانغو. تشعر برغبة فيها. تشعر برغبة في أن تختبر ما يُفترض بها أن تختبره دائماً: التأنّق في الملبس. التبرّج الذي لا يُلغي ملامح جميلة في الوجه كلّه. الخروج وحيدة من أجل سهرة ما، وإن في مطعم وجبات سريعة. هذا يؤدّي إلى وهم الحياة، مع أنه أساسيّ في الحياة. لكن المرأة واقعة في عزلتها. الجسد لعنة. التلصّص سمعياً على تأوهّات الجارة أثناء ممارسة الجنس، محاولة تعويض بائسة عن فقدانه.
الممثلة شن شيانغ ـ تشي تمنح المُشَاهَدة متعة مرافقتها في درب آلامها. النصّ السينمائي (سيناريو تشين هسيانغ) درسٌ في كتابة صورة سينمائية، تماماً كأداء الممثلة. اللقطات الأخيرة لوحدها كافية لمتعة مُشَاهَدة مصير العلة والاختناق. لباب المنزل قفلٌ غير صالح. أحياناً، لا يفتح الباب. في اللقطات الأخيرة، تحاول المرأة الخروج من منزلها لرمي القمامة، بعد تنظيفها البيت. يستعصي القفل عليها. تبدأ المعركة. إصرار وحماسة، ثم خمول وبكاء. القفل جامد في عناده. المرأة تتحايل ولا تستسلم، ثم تسقط وتخنع. دقائق مجبولة ببهاء تمثيل، وشفافية تصوير، وجمال توليف. ينتهي الفيلم بعد ثوان قليلة على كسر القفل. تستعيد المرأة أنفاسها، كأنها تتنشّق هواء جديداً. لكن الالتباس أجمل من كل تفسير: هل يعني «نجاحها» في فتح الباب «نجاحاً» في كسر عزلتها الحياتية، وانتصارها لنفسها؟ التداخل عميقٌ بين البيت والحياة، وبين الحصار داخل البيت والانغلاق المفروض على المرأة في الحياة. اللقطات الأخيرة مُدهشة بتعبيرها البصري. الموسيقى غائبة أو شبه غائبة ليس في اللقطات الأخيرة فقط، بل في مجمل مسارات الفيلم والحكاية. لا حاجة لإضافات فنية أو تقنية، فالممثلة تحمل براعة التعبير بأدائها الجميل.
«مَخرج» أحد تلك الأفلام المازجة فنّ الصورة بعمق المأزق النفسي والمعضلة الحياتية.
المصدر: السفير